على كورنيش بنها، أمام كشك الصحافة الذي يولي ظهره للنهر، طالعتُ غلاف قصة صغيرة الحجم عنوانها “الاختفاء الغامض”، إلى جوارها استقرت قصة أخرى بعنوان “أشعة الموت”، شعرت أنا وأخي بانجذاب نحو الغلافين، ولم تمانع أمي أن تشتري لنا القصتين، لنبدأ رحلة لم نكن نعرف أنها ستمتد لعقدين من الزمن.
قبل ذلك كنا جميعًا، ونحن ثلاثة أشقاء، نحرص على القراءة بشكل منتظم، نشأنا لنجد مكتبة هائلة عامرة بكل أنواع الكتب، تمتد الرفوف من الأرض إلى سقف غرفة الصالون.
كان الاهتمام الذي يخصصه أبي لمكتبته يلقي على الكتب بثوب من القداسة، ويغلفها بهيبة تفرض علينا رهبة الاقتراب منها، ولو لتصفح العناوين.
في طور الطفولة، كان مسموحًا لنا أن نشارك أبي في فتح صفحات الكتب الجديدة التي تخرج من المطابع متشابكة الصفحات، نستخدم فتاحة الأظرف، وهي لمن لا يعرف أداة أشبة بالسكين ولكن حافتها ليست حادة كالسكين، كنا نحصل على ٥ قروش عن كل كتاب ننتهي من فض الاشتباك بين كلماته، لم نشارك أبي القراءة حينئذ، ولكنه بذلك سرب إلى وجداننا رائحة الورق والحبر، ذلك الأريج السحري الذي مازال يأسرني حتى اليوم.
بالتدريج، راح أبي يمرر لنا بعض الكتب، عائلة من سويسرا، الفرسان الثلاثة، سجين زندا، أحدب نوتردام، ثم حاول أن يدمجنا في الشعر (الزجل)، وقصص نجيب محفوظ القصيرة، وكنا حينئذ نحرص على اقتناء مجلة ماجد ( مجلة إماراتية نقتنيها كل أربعاء)، ومجلة سعد (مجلة كويتية تصدر كل إثنين)، ذلك بخلاف القصص المصورة مثل مجلتي سمير وميكي، وتان تان وميكي جيب، كان أبي يحاول أن يجذبنا تدريجيًا نحو عوالمه الخاصة، فكان يفلح حينًا ويخفق في آخر، كانت بعض الكتب صعبة رغم تحفيزه لنا بمكافآت مالية عقب القراءة، وكان بعضها سلسًا ممتعًا، حتى ظهر نبيل فاروق، فتغيرت المعادلة.
محل الجرائد على يمين شارع فريد ندا، نعم كانت هناك محلات لبيع الجرائد والمجلات، وعم إبراهيم بات يعرف وجوهنا، كنا في الإجازة لا نقدر على الصبر حتى تعود أمي من قصر الثقافة حاملة كنزنا الثمين، فنمشي من البيت حتى يقابلنا وجه العجوز ببسمة شاردة لا تفارق وجهه، الأعداد الجديدة من رجل المستحيل وملف المستقبل تصدر أول كل شهر، ولكنها تصل إلى عم إبراهيم والكشك على الكورنيش في اليوم الخامس من الشهر، أذهب مع أخي أو يذهب أحدنا، لحظة استلام الأعداد الجديدة من السلستين كانت هي النشوة الكبرى، أبدأ القراءة في الطريق إلى البيت، أمر بجوار شارع النجدة وإدارة الجامعة، شاردًا أقسم بصري بين القراءة وتفادي السائرين وأعمدة الإنارة، أحيانًا أفوّت الشارع فأجد نفسي وقد تجاوزت مستشفى الإيمان الخيري، أعود عبر ممر ضيق بجوار تل أتريب الأثري، ذات يوم كانت القصة مشوقة للغاية، غجلستُ للقراءة على أحد الأعمدة المنسوبة إلى العصر الروماني في قلب التل، ظلت هذه الأعمدة الأثرية مهملة لسنوات طويلة، وعرفت من أبي فيما بعد أن أتريب كانت مدينة فرعونية ذات زمان بعيد.
لم نعد نهتم بحضور عروض السينما في قصر الثقافة، كان العرض الواحد يشمل ثلاثة أفلام، ولكن روايات الجيب منحتنا مساحة خيال أوسع من شاشة السينما، كانت أغلفة الفنان إسماعيل دياب مبهرة وتلخص الحدث بين دفتي الكتاب، ونبيل فاروق يقوم بدور الراوي، فيجمع أمامه عشرات الآلاف من الفتيان، ليقص عليهم قصة بسيطة في ظاهرها، ولكنها تمدد مساحة الحلم والخيال في عقول القراء، صار لنا بطل قومي معاصر هو أدهم صبري، وبطل مستقبلي هو نور الدين محمود، كنا شبابًا لا نعرف عن البطولة سوى المسطور في كتب التاريخ، ونعيش حاضرًا بلا أبطال، اهتم أبي بمطالعة ما استحوذ على اهتمامنا، فابتسم، وشجعنا على الاستمرار.
سد نبيل فاروق الثغرة، ورتق الشق في ثوب الحاضر بأن منحنا أبطالنا الغائبين، ثم راح فضاء الحكي يتسع بدوره، فظهر فارس الأندلس، وكوكتيل وفلاش وزوم والأعداد الخاصة، ورواية أرزاق، وصولاً إلى ظهور د. أحمد خالد توفيق بسلسلة ما وراء الطبيعة، وفي ظني أن أحمد خالد توفيق قد حصد زرعه في أوانه، ولكن الأرض التي شتل فيها مروياته كانت مشبعة منذ سنوات بسماد حكايات نبيل فاروق، لولا هذه الأرض الخصبة لما حققت سلسة توفيق نجاحها، فقد ظهرت ما وراء الطبيعة في توقيت كنا نسارع فيه باقتناء كل ما يحمل شعار روايات مصرية للجيب. لماذا؟ بسبب نبيل فاروق!
وعلى الرغم من الحضور الساحر والمبهر لشخصية أدهم صبري، وعبقرية نور الدين محمود، وقدرات س ١٨ الأسطورية، وجدتني تدريجيًا أنجذب إلى الشخوص الأقل تأثيرًا، أولئك الذين استقروا على هوامش الحكايات ليصنعوا بطولات الآخرين، فأحببت قدري، الفنان البدين البارع في تزوير الهويات التي تسهم في بطولة أدهم صبري، أذكر أنني بكيت حين حُطمت كفه في أحد أعداد السلسلة، وكتبت في حينها قصة قصيرة بديلة، حكاية ركيكة ينقذ فيها قدري أدهم، دون أن تتحطم كفه. بذات المعيار جاء انجذابي إلى شخصية محمود عالم الأشعة وعضو فريق نور الدين في ملف المستقبل، حتى أنني توقفت عن قراءة السلسلة لفترة طويلة عقب اختفاء محمود إثر سقوطه في بعد آخر أو عالم مواز، ولم أعد لقراءة ملف المستقبل إلا حين عاد محمود مرة أخرى.
رافقتني الروايات في حقائب السفر، وظلت حاضرة في جيبي في بداية المرحلة الجامعية، حتى انتهت السلسلة ذات يوم، فشعرت بنوع من الفقد، وخابرت شعور الفطام، رغم انشغالي بالعمل واهتمامي بقراءات أخرى واهتمامي المبكر بالكتابة آنذاك، كان نبيل فاروق يدرك أنه أتم مهمته، وقد صرنا نمتلك ما يؤهلنا للانتقال إلى الدرجة التالية، قراءة الأدب، كان الانتقال الآمن قد تم بالفعل إلى عوالم محفوظ ويحيى حقي وأبي ورفاق دربه، ومن بعدهم طابور طويل من الروائيين عبر العقود اللاحقة.
زرتُ بنها في الانتخابات التي جرت في ٢٠١٢، قابلت الأصدقاء وتجولت في المدينة التي غادرتها منذ ست سنوات، وحين وجدت محل عم إبراهيم وقد تغير، وغاب عنه عم إبراهيم وبسمته وشروده، شعرتُ بكف باردة تعتصر قلبي، ملامح العالم الذي أعرفه بدأت تذوب بغياب هذا المحل.
بنها؛ تلك المدينة الهادئة الهاجعة على ضفة النيل، كانت تتحور إلى نموذج مصغر من القاهرة القبيحة، محلات ماكدونالدز وكنتاكي وكارينا احتلت أرجاء العالم القديم، إزميل الزمن يقشر ذكريات الصبا بقسوة وضرواة تحت مسمى التطوير، وجدتني غريبا منذ الوهلة الأولى، ولكن غياب محل عم إبراهيم، عمق في داخلي شعورًا بالضياع، فكرت أن أسأل صاحب المحل الجديد عن عم إبراهيم وجرائده ومجلاته، ولكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، خوفًا من توطيد الشك باليقين.
مات أحمد خالد توفيق بعدما فقدتُ أعداد سلاسل رجل المستحيل وما وراء الطبيعة وملف المستقبل، راحت الكتب أدراج التنقل والترحال في العاصمة التي تتقن تشويه الماضي وسرقة العمر، استقبلتُ موت رفعت إسماعيل بانقباضة أخرى، ثم تشاغلت عن الأمر بالانخراط في المزيد من نوبات القراءة والكتابة. كان وجود نبيل فاروق يحافظ على استقرار صورة بنها القديمة في ذاكرتي، بكل الأحداث والمواقف المرتبطة بشراء الروايات وقراءتها، في الشارع، وعلى الكورنيش، وفي تل أتريب، وعلى فراشي، كل تلك الأماكن ظلت حاضرة راسخة تجافي الزمن وتقاوم كل موجات الغياب، حتى أنني حتى اليوم، كنت أؤمن بأن عم إبراهيم مازال حيًا، يبيع الكتب والجرائد وسلاسل روايات مصرية للجيب في مكان ما.
كانت روايات مصرية للجيب بمثابة حجر الأساس في مرحلة مفصلية من أطوار الطفولة والصبا، غرفة مغلقة في الذاكرة، أختزن فيها الكثير من الصور والمطارح والوجوه ورائحة الورق والحبر، حجرة دافئة لها جدران شاسعة، رسمنا عليها ملامح أبطالنا، ومعالم انتصاراتنا المتخيلة، والحروف الأولى من كتاباتنا، وأحلامنا التي نعرف أنها لن تتحقق.
مات اليوم نبيل فاروق، فمات أدهم صبري، ونور الدين محمود، ومنى توفيق، وسلوى ورمزي ومحمود ونشوى وفارس الأندلس، تهدّم برحيله جدار آخر من العالم الذي ألفناه ولم نقدر حتى اليوم على مواكبة تحوراته.
مات نبيل فاروق، فبكيت؛ لأنني أدركتُ أن عم إبراهيم قد مات، وأن جرائده ومجلاته قد انتهى بها الأمر على ميزان بائعي الروبابيكيا، أتصور الآن أنه مات عندما توقفنا عن زيارته، وتدلت من فوق أرففه غلائل العناكب، حتى ذابت ابتسامته، وأدرك للمرة الأولى أسباب شروده؛ كان بدوره يفقد تمييز حدود العالم الذي يألفه.
وداعًا نبيل فاروق، وداعًا لأجمل سنين العمر، وداعًا لكل الصور التي ذابت وانصهرت اليوم ولن أقدر على استعادتها مرة أخرى….
ووداعًا يا عم إبراهيم، سامحني!