فاطمة خير
يتصادف أن نهاية العام..تحديداً هذا العام الغريب، تأتي مع حركة فريدة من نوعها في “الفلك”، يقول الخبراء أنها لم تحدث منذ ما يقرب الألف عام، ويقول المنجمون أنها تكشف كثيراً من المخبوء في نفوس البشر، ويقول حصاد “التريندات” أن كثيراً من التحول يحدث في الداخل: تحول يقول بوضوح أننا أمام عصر جديد من المشاهدة.. والقناعات.
وكما أن في كل محنة منحة، وأن الحظ لا يعرف قوانين الواقع والظروف، فقد كان لعام “الكورونا”الأول ضحايا كثيرون.. وفائزون أيضاً، بعضهم فاز كنتيجة لآثار الحظر العالمي الأضخم، وبعضهم فازوا بسبب الرقمنة الاضطرارية، و بلا شك أن شبكة نتفليكس كانت منهم، وذلك بعيداً عن أنها – سنة 2020 – دشنت عصر المنصات الرقمية بكل قوة؛ إلا أن الشبكة الأكثر استعداداً بحكم الواقع كانت هي الأكثر فوزاً: ربحاً وجمهوراً، لكنها أيضاً كشفت الكثير من “المسكوت عنه” ليس عن قصد وإنما فقط لأنه لم ينتبه أحد.
الشبكة التي طورت من نفسها لتبقى في مقدمة السباق للعام صاحب المفاجآت الرقمية، طرحت على جمهورها المصري التريند الخاص بالجمهور المصري ممثلاً في الأعمال العشرة الأعلى مشاهدة بشكل يومي، وكلنا يعرف أن قائمة مثل هذه كفيلة وحدها بأن تجعل العمل يظل في المقدمة، لكن ذلك أوضح دون قصد – بالطبع – أوجه عديدة للشخصية المصرية المعروف عنها أنها لا تتصف بالصراحة، فالمصريون بارعون في إخفاء مشاعرهم، وفي أقصى الأحوال يعلنونها بسخرية، لكن أي متخصص يعرف أنه يلزم الكثير من الجهد والمناورة لتعرف حقاً ما يفكر فيه المصري.
التريندات -من وجهة نظري كملاحظة وليس كباحثة علمية- كشفت ميولاً أراها غير نمطية وذلك على خلفية التعاطف مع شخصيات أعمال بعينها، على سبيل المثال:
جاءت بداية العام لتشهد سطوع نجم أبطال المسلسل الأسباني “لاكازا دي بابيل”، صحيح أن المسلسل حمل أبطاله إلى النجومية العالمية؛ لكن أليس من الغريب أن يتصدر التريند ولفترة طويلة في مجتمع لا يسمح لأفراده أصلاً بإعلان آرائهم الشخصية لو أنها تعارضت مع “المتعارف عليه”، ثم فجأة يصبح نجومهم المفضلين هم عصابة يرتكب أفرادها كل أنواع الموبقات التي يكفي أحدها لرجم صاحبه أو إعدامه أو نبذه في “المجتمع المصري المحافظ”! لم يتصدر المسلسل تريند مشاهدة المصريين على نتفليكس وحسب؛ وإنما صار كثير من أبطاله فتى أحلام وفتاة أحلام شباب وجيل الوسط!
وبالحديث عن العصابات، كلنا يذكر بالتأكيد كيف أصبح أبطال مسلسل “100 وش” نجوم شاشة رمضان الأكثر شعبية، صحيح أن المسلسل كان على مستوى عالي من الكتابة والإخراج والتمثيل، مسلسل خفيف الظل..وحالفه الحظ، لكن هل من المعتاد أن يتعاطف المصريون مع “لصوص” لدرجة اتحاد مشاعر الجميع متمنين لها النجاح في عمليات النصب والسرقة، ثم القلق عليهم حين تعرضوا للخطر، ثم الإحباط الشديد عندما تعرضت العصابة نفسها للنصب، ثم الفرحة الشديدة عند اتضاح قدرة أفراد العصابة على الهرب من العدالة! قد يبدو أنني أحمّل الأمر أكثر مما يحتمل فالمسألة مجرد مسلسل تليفزيوني لا أكثر، لكن الحقيقة –من وجهة نظري- أن ذلك يعكس الكثير: فالتسامح مع اللصوص بل والتعاطف معهم إذا كان رد فعل جماعي يعكس فقط تسامحاً مع فعلهم في اللوعي، بل وربما أن هناك من ينتظر الفرصة فقط ليصبح مثلهم.
الخروج عن المألوف هو انطباع مؤكد عن ميول المشاهدة لدى المصريين في هذا العام، وبالعودة إلى نتفليكس، نجد مسلسل The good place أيضاً قد دخل قائمة تريند المشاهدة لدى المصريين، والمسلسل لمن لا يعرفه يحكي بشكل فانتازي عن بطلة وجدت نفسها في “المكان الجيد” في الحياة الأخرى ومن خلال مواسم متعددة تخوض تجارب متنوعة للتأقلم ع مكان ترى أنه لا تستحقه، ثم تندمج فيه وتجد نفسها متورطة في إدارته! هذا الذوق في المشاهدة يعكس أيضاً مزاجاً جديداً في مجتمع ينصب محاكم التفتيش للأعمال الفنية، ربما أن شريحة مشاهدي نتفليكس ليست هي الشريحة الأكبر لكنها بالتأكيد ليست شريحة يستهان بها.
على منصة أخرى كان للتريند نصيب، فمنصة شاهد دشنت نوعية جديدة من الأعمال بعرض مسلسل “في كل أسبوع يوم جمعة”، عمل فني على درجة كبيرة من التميز لكنه عاد بالجمهور لانتظار حلقة درامية أسبوعية، كما أن المعالجة الدرامية لرواية ليست من النوع الرائج، مثلت في حد ذاتها جرأة في اختبار ذائقة الجمهور، وقد كانت المخاطرة ناجحة.
في بداية العام كان التريند الأعلى هو الخلاف على أغنية “بنت الجيران” ( أكاد لا أصدق أننا بالفعل كنا في “خناقة” لأجل “بنت الجيران” ما يبدو الآن رفاهية)، وهل تمثل الفن الهابط أم أنها تُصَنف ضمن الغناء الشعبي، والذي يجب احترام خصوصيته، ثم ما يلبث العام أن ينتصف ليتصدر نجم المراهقين على اليوتيوب “ويجز” السباق، فارضاً نوعية ظلت لفترة طويلة بعيدة عن أضواء الشهرة التقليدية، لكن الرقمنة جعلت للمنافسة قواعد جديدة، يفرضها مستخدمو الإنترنت الأكثر سطوة: المراهقين والشباب، وبذلك نكون تماماً أمام عصر يحكمه ذوق فني غير متعارف عليه لمن يتمسكون بالتفكير التقليدي، اعترفوا بذلك أم تجاهلوه، وافقوا أم رفضوا؛ فللإنترنت أحكام أخرى.
بدأ العام عادياً للغاية، لكن نظرة واحدة للخلف ونحن نغلق الباب خلف هذا العام؛ تجعلنا نعرف أن ما سبق لن يعود، وأن الغد القريب جداً مختلف تماماً.. لمن يفهم.