إسلام وهبان
شهدت فترة حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، تغيرات كبيرة في المجتمع المصري، سياسيا واقتصاديا ودينيا أيضا، وانعكست سياسات السادات خلال تلك الفترة على شكل وطبيعة الحياة في مصر إلى الآن، خاصة قراره بإعادة إحياء جماعة الإخوان المسلمين وفتح المجال للتيار الإسلامي واسعا، واستغلال ذلك لمواجهة خصومه من اليساريين والشيوعيين.
ورغم نجاح السادات خلال السبعينيات بشكل كبير في تقييد حركة معارضيه من خلال دعم التيارات الإسلامية وإعطائها مطلق الحرية في تأسيس الجماعات الدينية وممارسة الأنشطة الدعوية بشتى الطرق، وفرض سيطرتها على المشهد العام في مصر، إلا أنه لم يستطع الوقوف أمام قوة هذا التيار الذي انقلب عليه بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم اغتياله في أكتوبر 1980.
في كتابه “دعاة عصر السادات” الصادر عن دار العين، يستعرض الكاتب الصحفي وائل لطفي، تاريخ صناعة التشدد في مصر خلال السبيعينيات، وتحليل مسيرة أبرز الدعاة الذين لمعوا خلال هذه الحقبة، وكان تأثيرهم هو الأكبر في صبغ الطابع الديني على المجتمع المصري، أو ما عرف بسنوات الصحوة، وكيف امتد أثرها إلى الوقت الراهن.
قبل أن يبدأ وائل لطفي في تحليله لأبرز رموز الدعوة خلال فترة السبعينيات، وكيف أثروا بفتاويهم وآرائهم في تدين المجتمع المصري، وإدخال الدين في الشأن السياسي وتبنيهم لفكرة الدولة الإسلامية، حاول المؤلف أن يصل إلى جذور عودة الإخوان المسلمين للمشهد.
فتح المجال لتيار الإسلام السياسي واسعا، هل بدأت بقرار من السادات بعودة الروح للجماعة المحظورة وخروجهم من السجون، أم بلجوء الناس إلى الدين بعد نكسة 1967، أم بمحاولة جمال عبد الناصر توحيد الصف واستقطاب مناصري جماعة الإخوان المسلمين لمواجهة العدوان الإسرائيلي، أم أنه اتفاق أو صفقة بين السادات والجماعة لترك التيار الإسلامي في مواجهة اليساريين وبقايا نظام عبد الناصر، لتخلو له الساحة لفرض سياساته وتوجهاته.
يرى جان نويل فرييه، أن نكسة 67 اسقطت حلم القومية ليحل محله حلم الأمة الإسلامية، كما أنها جعلت شريحة كبيرة من المصريين يبحثون عن ملاذ يخفف عنهم فاجعة الهزيمة، ولم يجدوا أفضل الدين وحديث الدعاة عن الآخرة وعلاقة العبد بربه وانهيار الدول لابتعادها عن منهج الله، مشيرا إلى أن عبد الناصر شرعا بالفعل في الإفراج عن ألف من كوادر جماعة الإخوان بقرار صدر عام 1969.
على الرغم من ذلك يرى الفرنسي جيل كيبل، أن السادات هو من فتح المجال واسعا للإسلاميين من خلال صفقة للقضاء على خصومه خاصة اليساريين، إلا أنهم أردوه قتيلا في النهاية. وسواء كان الاتفاق مع الإسلاميين كان صفقة أو ميل شخصي لدى السادات لأسلمة الدولة، فإن قرارته ساعدت بشكل كبير في تغول الجماعات الإسلامية وجعل من المساجد سوق كبير لنشر أفكار جماعة الإخوان وتدخل الدين في كل مناحي الحياة، وجعل للدعاة قوة تضاهي رجال الدولة، يؤخذ بكلمتهم في أدق التفاصيل الشخصية والعامة.
يبرز الكتاب الأفكار التي تبناها واعتنقها الدعاة في فترة السبعينات، وبثوها في عقول الشباب والفتيات في الجامعات أو خطبهم على المنابر وعبر الشاشات، والتي لا تبتعد كثيرا عن أفكار جماعة الإخوان المسلمين ومفهوم الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، ورغم الانفصال الظاهري لبعض الدعاة عن الإخوان، إلا أنهم لم تتغير نظرتهم عن حسن البنا وأفكاره، بل أصبحت فتواهم وكتاباتهم مرجعا لشباب الجماعات الأسلامية الجديدة.
فالشيخ محمد متولي الشعراوي، والذي يعد الداعية الأشهر لما حققه برنامجه التلفزيوني من نجاح، ورغم كونه أحد من تركوا الإخوان لوفديتهم، إلا أنه لم يقف يوما في صف المعادين للإخوان المسلمين، بل يرى أن “الجماعة كالشجرة.. ما أوفر ظلالها، رحم الله شهيدها، وغفر الله لمن استعجل ثمارها”، بل إنه كان من أبرز الدعاة الذين نادوا بالحكم الإسلامي، وإن اختلف في طريقة تطبيق ذلك.
فهو يريد أن يحكم الإسلام الدولة، وليس بالضرورة أن يحكم هو أو من يتصدر المشهد من الراغبين في تطبيق الشريعة للدولة، ويرى أن التغيير يمكن أن يأتي من الأسفل، ويكون بشكل أكثر عمقا في المجتمع نفسه دون الصدام مع الحاكم. كما أنه هاجم أصحاب الفكر غير الديني ووصفهم بالدعوة إلى للضلال مثلما حدث مع توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود.
كذلك الإمام محمد الغزالي، فرعم خروجه عن جماعة الإخوان بعد ثورة يوليو، إثر خلافه الكبير مع الهضيبي، والذي انتقد على أثره التنظيم وأفكاره واستغلاله للدين من أجل الوصول للسلطة، إلا أنه ومع مرور الوقت وخلال فترة السبعينيات ومع عودة الروح للجماعة، عادة الصلة بقوة بين الغزالي والإخوان، وأصبح من أبرز الشيوخ الذين يدعمون الجماعات الإسلامية خاصة في المعسكرات التي كانوا يقيمونها للشباب.
كما أنه كان من أبرز الداعين لأفكار الإخوان، وتطبيق الشريعة، فضلا عن نظرته للفن والأتظمة السياسية الأخرى، مثلما حدث بعد مناظرته مع فرج فودة، واستغلال البعض لفتوى تكفيره لمن ينكر الشريعة وضرورة تطبيقها، في اغتيال فودة، وهو نفس الفكر الذي تبنته الجماعات الإسلامية على اختلافها.
الأمر نفسه لم يتغير مع الشيخ عبد الحميد كشك، والمفتي السيد سابق، والشيخ إبراهيم عزت وغيرهم، فرغم النبرة المتشددة والخطاب التكفيري لهؤلاء إلا أنهم لم يخرجوا من عباءة الإخوان المسلمين، ولم تعلو أصواتهم إلا في فترة السبعينيات، ولم يشهدوا صعودا لنجمهم إلا بدعم من السادات وسياساته.
لم يتناول الكتاب مسألة دعاة السبعينيات بنظرة أحادية، أو من خلال ما كتبه المعارضين لفكرة الإسلام السياسي فقط، وإنما تناول بالعرض والتحليل لمختلف المصادر من الجانبين، فاستشهد بما كتبه قادة الجماعات الإسلامية، بل وما قاله أو ذكره الدعاة أنفسهم في كتبهم أو خطبهم.
حتى الوقائع التي لم يكن لها دليل قوي فقد كان الكاتب منصفا في الإشارة إليها، مثل نفي تهمة استفادة الشيخ كشك من العائد المادي لتسجيلات الصوتية، أو زيارة الشعراوي لتوفيق الحكيم بعد المعركة التي دارت بينهم، أو موقفه من فتاوى نقل الأعضاء وغيرها من الوقائع والأحداث التي تعرض فيها لعدد كبير من المراجع لدى الطرفين، من خلال عدد هائل من الكتب والحوارات والوثائق من أرشيف الصحافة.