في فيلم “العار” يندهش شكري “حسين فهمي” وكيل النيابة من حديث أخوه كمال “نور الشريف” الذي أخبره بالسر الخطير عن عمل والدهم في تجارة المخدرات هادمًا بحديثه صورة الوالد التقي الورع التي رسمها الأب لأبنائه طوال السنوات الماضية، فما كان من “شكري” إلا مواجهة هذه الحقيقة بطرح سؤال مجازي يتراوح بين الإنكار والتوبيخ “أنت عايز تقنعني أن بابا كان بيتاجر في المخدرات؟”.. قبل أن يُجيب كمال ببساطة “من زمان.. أمال أنت فاكر العز اللي عايشين فيه ده كله من دكان العطارة!”.
تذكرت هذا المشهد وأنا أتابع سؤال مجازي آخر طرحه قطاع من المستخدمين عبر مواقع التواصل الاجتماعي في استنكار لتحديثات تطبيق واتس آب “أنت عايز تقولي استخدم “واتس آب” اللي هينتهك خصوصيتي؟!”.
والإجابة ستكون بنفس بساطة إجابة كمال أن الخصوصية الرقمية مخترقة منذ سنوات إلا إذا كنت تعتقد أن التطبيقات والألعاب والمنصات الاجتماعية التي تستخدمها مجانًا يتم الحساب عليها من دكان العطارة! التطبيقات المختلفة التي تسمح لك باستخدامها بشكل مجاني تقوم بهذا الأمر نظير الحصول على بياناتك لتوظيفها في أغراض مختلفة على رأسها الأغراض التجارية حيث تحصل على الخدمة المجانية مقابل بياناتك في وقت أصبحت فيه تجارة البيانات على مستوى العالم تقدر بمئات المليارات من الدولارات “بعض التقارير تشير إلى أن قيمتها تقارب 200 مليار دولار سنويًا”.
ويعد امتلاك أحد الشركات للبيانات الضخمة بمثابة وسيلة لتحديد قيمتها السوقية، فعلى سبيل المثال فإن شركة “أوبر” لا تُصنع السيارات أو تمتلك دراسات عن كيفية ابتكارها أو تصنع قطع الغيار كما إنه ليس بحوزتها سيارة واحدة وإنما تكمن قيمتها المقدرة بعشرات المليارات من الدولارات في امتلاكها لأكبر قاعدة بيانات للسائقين والسيارات والركاب.. الشركة تمتلك النموذج الاقتصادي المتعلق بالعرض ممثلًا في السائقين والسيارات والطلب ممثلًا في الباحثين عن خدمات النقل الشخصي.
البيانات الشخصية الضخمة المتاحة عبر المواقع الاجتماعية وتطبيقات التراسل المختلفة، واتس آب وغيرها، من معلومات وصور وفيديوهات وتعليقات تكشف عن الأنماط والاتجاهات والاهتمامات المتعلقة بسلوك الجمهور، وهي البيانات التي لا يقتصر استخدامها على تحسين قدرة المواقع الاجتماعية والإنترنت بشكل عام في استهدافك بالإعلانات التي تناسبك إنما تصل إلى توظيفها في تغذية الذكاء الاصطناعي وتوقع سلوك قطاعات من الجمهور بجانب بيع أجزاء من البيانات لشركات مختلفة تستخدمها في تسويق منتجاتها وخدماتها بجانب استخدام البيانات لأغراض أمنية من جانب الحكومات.
وتعد القطاعات الحكومية والمالية والمتعلقة بالاتصالات من أكثر القطاعات انفاقًا على المستوى العالمي في شراء حلول البيانات والتحليلات حيث يستفيد القطاع المصرفي على سبيل المثال من هذه المعلومات في بناء الملف التأميني للعملاء لتحديد مدى قدرتهم على سداد ما يطلبونه من قروض وبطاقات آئتمان وخدمات بنكية مختلفة.
وفي ظل تجارة تدر أرباح سنوية تقدر بالمليارات ويتم توظيفها في قطاعات تجارية وأمنية مختلفة اعتمادًا على معلوماتك المتوفرة عبر المواقع الاجتماعية وتطبيقات الدردشة والألعاب الإلكترونية فإن اتصالك بالإنترنت عبر الهاتف أو الكمبيوتر أو حتى التليفزيون الذكي يعني أن خصوصيتك المزعومة غير المنقوصة مجرد وهم وخيال
محركات البحث والمواقع الاجتماعية وشركات الإنترنت العملاقة والاتصالات وغيرهم يعلمون عنك أكثر مما تعرف عن نفسك ويتبادلون بياناتك فيما بينها وفق اتفاقات واضحة أو أخرى غير معلنة.. كما أن بيانات محددة عنك قد لا يصل إليها أحد التطبيقات بينما يعلمها بالضرورة تطبيق آخر.
السؤال المثار عند الإعلان عن أي تحديثات جديدة في التطبيقات المستخدمة لا يجب أن يتعلق باختراق خصوصيتك بل يرتبط بمدى ونوعية حدوث هذا الاختراق لذلك فإن استمرارك في استخدام واتس آب لأغراض شخصية، مثلما تستخدم “ماسنجر” مثلًا، لن يُنقص المزيد من خصوصيتك. كما أن صورك الشخصية ومحادثاتك الخاصة لن تهتم أي تطبيقات بعرضها على الملأ أو الإطلاع عليها أو كشف سترك بشأنها.. فالأمر هنا لا يشبه المخبر التقليدي الذي يراقبك لكشف أسرارك ومساومتك عليها، إنما المراقبة تطال الجميع بغرض تحليل البيانات بشكل آلي ولا يكون التدخل البشري إلا وفق حالات تحددها مصالح كل موقع وتطبيق أو جهة، فعلى سبيل المثال لن تهتم الأجهزة الأمنية العالمية بالقراءة البشرية لمحادثاتك إلا إذا سجل البحث الآلي كلمات قد توحي بتهديدك للأمن.
أما إذا كانت طبيعة عملك تقتضي الحفاظ على بياناتك فيمكن لك عندها استخدام تطبيقات تراسل أخرى بعيدًا عن واتس آب، مثل سيجنال أو تليجرام، مع العلم أن بياناتك المؤمنة في أحد التطبيقات أمام أحد الشركات أو الدول أو الجهات قد لا تكون بالضرورة مؤمنة في تطبيق آخر أمام شركات أو دول أو جهات أخرى.
وبالتالي فإن المستوى الذي قد يظنه البعض منتهكًا للخصوصية الممثلة في نشر صورك الخاصة أو الإطلاع على أحاديثك الشخصية أو النميمة المتبادلة بين الأصدقاء أو رسائل الحب والغرام فهي لا تشغل أحد غيرك لذلك إذا كنت مثلًا قد قررت الزواج سرًا على زوجتك الأولى وتخشي أن تعلم فعليك أن تثق أن سرك سيكون في أمان مع “واتس آب” الذي سجل محادثتك مع حبيبتك لكنه لن يخبر بها زوجتك فيما الزوجة الذكية فقط قد تلاحظ أن حسابك على فيسبوك قد بدأ يُظهر لك الكثير من الإعلانات المتعلقة بقاعات الأفراح أو الفنادق المخصصة لأجازة شهر العسل!
ولأن مقاطعة التطبيقات والمنصات الاجتماعية المختلفة بات أمرًا صعبًا بالنسبة لقطاعات كبيرة فإننا في حاجة إلى المزيد من الانضباط الداخلي عند استخدامنا لها حيث يفضل أن نقلل من التعبير عن أنفسنا لأن هويتنا مثلما تتكون من ذات عامة تعيش العالم الاجتماعي الحقيقي فإنها تتكون أيضًا من ذات خاصة تحتاج المزيد من الخصوصية لحماية أفكارنا من التشويش والتلاعب بها.
أما إذا قررت أن وقت التمرد قد حان للحفاظ على خصوصيتك المزعومة فعليك الاستغناء عن جميع الأجهزة الإلكترونية التي تستخدمها “تليفون، كمبيوتر، تاب، تليفزيون وساعة ذكية وغيرها من الأجهزة المرتبطة بالإنترنت” ثم عليك أن تعزل نفسك داخل أحد الشقوق والكهوف في الصحراء لكن أرجوك لا داعي لتقمص شخصية “شكري” في فيلم “العار” معتقدًا أنك تنعم بالخدمات الرقمية المختلفة التي تكلفت في تصميمها المليارات بشكل مجاني من دكان العطارة.