محمد المالحي يكتب: مكرم سلامة حارس الوثيقة

نقلاً عن “مجلة الدوحة”

كما تنتخب الحياة عناصرها، تنتخب -أيضاً- «الوثائق» و«الأرشيفات» من تمنحه سحرها وأسرارها فيما يشبه «غواية» المدن المسحورة، حيث بات محترفو جمع الوثائق والأرشيفات النادرة في عالمنا العربي، في كثير من الأحيان «ذاكرة بديلة للتاريخ» ومصدراً لكثير من الباحثين والدارسين، فهم أشبه بصيّادي اللؤلؤ و«قنّاصة» كل ما هو ثمين ونادر، لاتراه أعيننا أوتمنحه ذاكرتنا ما يستحقّ من التكريم، والوقوف أمامه في محطات التأمُّل والمتعة والحنين للماضي البعيد.
Untitled44
في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر، يقيم مكرم سلامة «74 عاماً» أحد أهمّ جامعي الوثائق والأرشيفات بمصر والعالم العربي؛ حيث يمثِّل حالة فريدة لـ«الوثائقيون» الذين لايرون العالم، إلا من خلال «عطر الوثائق والأرشيفات» ومتعة دخول «مدن الأساطير» عبر بوّابة صفحات التاريخ.

ما إن تطأ قدمك عتبات منزل «مكرم» بمنطقة «ميامي» في سيدي بشر حتى تغرق ذاكرتك في مشاهدات لاتراها إلا عبر أفلام «الأبيض والأسود»، وتعود بك عجلة الزمن إلى قرابة مايزيد على قرن من الزمان، ما بين وثائق الإرهاصات الأولى لصناعة السينما المصرية، وخطابات بخط يد كبار الفنانين خلال تلك الفترة، آلاف «الأفيشات السينمائية» القديمة، لأساطين نجوم الفن السابع في مصر، خطابات وعقود الأفلام الأصلية بخطّ أصحابها وعطرهم، إضافة إلى آلاف الصور الفوتوغرافية النادرة لكواليس صناعة الأفلام (التي تعرف حالياً باسم الميكينج) خلال فترة الثلاثينيات حتى ستينيات القرن الماضي.
Untitled777
من سحر السينما، تنتقل إلى غموض «السياسة» وأسرارها عبر مئات الصور النادرة، التي يملكها «مكرم» بالـ«نيجاتيف»، لأعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو، ورؤساء مصر السابقين: محمد نجيب وأسرته في مشاهدات نادرة، وجمال عبد الناصر، وقبلهم أسرة محمد علي، والملك فؤاد والملك فاروق، وزعماء مصر السياسيين كسعد زغلول ومصطفى النحاس، إضافةً إلى قرابة 10 آلاف صورة، توثِّق تفاصيل الحياة اليومية والمهن والشوارع في مصر حتى منتصف الخمسينيات بعدسة المصوِّرين الفوتوغرافييون الأجانب، الذين عاشوا في مصر خلال تلك الفترة، وساهمت إبداعاتهم في طفرة في عالم التصوير الفوتوغرافي وقتها.
Untitled55
يشعر العم «مكرم» بالفخر والسعادة بما يملكه من وثائق وأرشيفات نادرة، بقوله: «أشعر أني أغنى رجل في العالم»، وكلما أهديت «مكتبة الإسكندرية» جزءاً من الوثائق والأرشيفات تغمرني السعادة والإحساس بالرضا، حيث بلغ ما أهديته لـ«المكتبة» قرابة 300 ألف وثيقة نادرة، بهدف توثيقها والحفاظ عليها في ذاكرة مصر المعاصرة للأجيال القادمة، بينها وثائق أملاك الدائرة السنية «أملاك الخديوي إسماعيل وأسرته» وخطوط الري المصرية وإنشاء السكة الحديد في عهد محمد علي، -مؤسِّس مصر الحديثة، إضافة إلى الرخَص الأولى لإنشاء دور السينما والمسرح في مصر بدايات القرن الماضي، وغيرها من الوثائق.

تمثِّل «السينما» ووثائقها الاهتمام الأكبر لـ«مكرم» خلال رحلته في عالم جمع الوثائق والأرشيفات، التي بدأها منذ 40 عاماً تقريباً، جاب خلالها صالات المزادات والأسواق الشعبية في مصر، وعالم الباعة المتجولين الذين يجمعون مخلّفات المنازل، ويُطلَق عليهم في مصر «باعة الروبابيكيا»، إضافة إلى شراء مخلَّفات دور العرض السينمائية التي تعرضت للهدم خلال حقبة الثمانينيات، للبحث عن غايته.

وقد صرَّح مكرم لـ (الدوحة) قائلاً: لديّ ما يقرب من 500 ألف أفيش سينمائي، خاص بكل ما أنتجته السينما المصرية، منذ بدايات صناعة السينما في مصر عام 1928 حتى الآن، بينها جميع أفيشات أفلام السينما الصامتة، إضافة إلى أفلام أنور وجدي، ونجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وعلي الكسار، مع مجموعة نيجاتيف كاملة للفنان الراحل أنور وجدي (قرابة 500 صورة) تحوي صوراً نادرة له منذ شبابه وحتى وفاته، من بينها صور عائلية له مع والدته وكذلك زوجته المطربة الراحلة ليلى مراد في حفلات رأس السنة الميلادية، وكذلك العروض الخاصة بأفلامه، وكواليس الأفلام التي أنتجها وأخرجها حتى وفاته عام 1955.

Untitled333
كما لديَّ محاضر غرفة صناعة السينما منذ عام 1953 حتى 1963، وبينها قرار حذف صورة الملك السابق فاروق من الأفلام عقب «ثورة يوليو» 1952، والمئات من عقود إنتاج وتوزيع غالبية الأفلام المصرية منذ الثلاثينيات وحتى بداية الستينيات الخاصة بشركة «بهنا فيلم» أشهر موزِّع سينمائي في مصر حتى بداية الستينيات. ومن بين عقود الأفلام التي يملكها مكرم: عقود أفلام المخرج الراحل حسن الأمام وصلاح أبو سيف، والفنان فريد شوقي، وعقود أفلام المطرب الراحل محمد فوزي، وبينها شكوى أرسلها «فوزي» للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1959، يشكو فيها تعنُّت «الرقابة» معه في تصريح تصدير فيلم «كلّ دقّة بقلبي» للعرض في الخارج مما يهدِّده بالإفلاس، إضافة إلى عقود أفلام كلّ من سيدة الشاشة العربية فاتن هانم (كان لقب «هانم» يسبق اسمها)، وعمر الشريف وأحمد رمزي وهند رستم، كذلك الدعاوي القضـائـيـة الـمـتـبادلـــة بين الفــنانـيــن والمنتجين وقتها، بسبب ترتيب الأسماء على أفيشات الأفلام.».

أما أهمّ ما يعتزّ به «مكرم» فهو قرابة 150 صورة نادرة يملكها بالـ«نيجاتيف» أيضاً، لكواليس أهمّ ثلاثة أفلام، في مسيرة المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين للمنتج جبرائل تلحمي، وهي: «باب الحديد، صراع في الوادي، صراع في الميناء» يظهر فيهم «شاهين» خلف الكاميرا في أثناء توجيه أبطال الفيلم، وفي أثناء الاستراحة، مع أبطال أفلامه وقتها: عمر الشريف، وفاتن حمامة، وهند رستم، وفريد شوقي.
Untitled666
وعن وثائق يوسف شاهين صرَّح مكرم: «منذ نحو عشرين عاماً قام وَرَثة تلحمي، ببيع محتويات مكتبه الخاصّ في القاهرة لإحدى صالات المزادات، وبينها نيجاتيف تلك الأفلام، التي تُعَدّ كنزاً ثميناً في مسيرة يوسف شاهين، وقمت بإهداء نسخة من الصور لابنة شقيقته المنتجة ماريان خوري، في ذكري وفاته الأولى منذ عدة سنوات، وقد سعدت بها جدّاً، لأن شاهين نفسه لم يكن يملكها في حياته، وكانت بحوزة تلحمي بوصفه منتج أفلامه الأولى (حسب تعبيره).

يعتزّ مكرم بملكيّته أرشيف صور فوتوغرافي للمخرج الإيطالي اليهودي الراحل «توجو مزراحي» مع أسرته، وفي أثناء تصوير أفلامه، وكان توجو مزراحي قد هاجر من مصر عام 1948 وتوفِّي في إيطاليا عام 1988، وهو مخرج فيلم «سلّامة» لكوكب الغناء العربي أم كلثوم، وجميع أفلام الفنان الكوميدي علي الكسار، ويعدّ أحد روّاد مخرجي السينما المصرية، وهي المجموعة التي أهداها «مكرم»، منذ عدة سنوات، لمكتبة الإسكندرية في أثناء احتفالية مئوية السينما المصرية في الإسكندرية، مسقط رأس «توجو مزراحي» بمناسبة تكريمه.

ومن سحر السينما إلى غموض عالم السياسة، حيث يكشف «مكرم» عن وثائق نادرة أيضاً في تاريخ مصر المعاصر، بينها تعويضات الحكومة المصرية للمتضرِّرين من حادث «حريق القاهرة عام 1952» الذي لم ينجح التاريخ حتى الآن في كشف طلاسمه، ورغم مرور عشرات السنوات فقد اشترى مكرم هذه الوثائق من بائع ورق قديم منذ عدة سنوات، بينها أصول عقود التسوية والمساعدات التي قَدَّمتها الحكومة المصرية وقتها لمنكوبي الحادث من أصحاب المحالّ والمنشآت التجارية، والتي قدَّرتها الحكومة المصرية وقتها بمبلغ 5 ملايين جنيه.

ومن تلك الوثائق أيضاً خطابات تظلُّم بخطّ اليد تخصّ اللواء مراد محمد الخولي، حكمدار بوليس مصرالأسبق، في عهد الملك السابق فاروق والذي أقيل من منصبه عقب حريق القاهرة، أرسلها «الخولي» إلى وزير الداخلية وقتها، فؤاد سراج باشا الدين، بتاريخ 9 مارس 1952 يتظلَّم فيها من قرار إقالته.