هدير عبد المنعم
قديمًا، لم يكن الأمر يحتاج إلى مجهود أو قوة ملاحظة لرؤية بائع الجرائد، فرائحة ورق الجرائد المميزة كانت تعلن عن نفسها في ساعات الصباح الأولى، ومنظر الجرائد المتراصة بجانب المجلات وقد يزاحمها بعض من الكتب، كان هو السائد لدى بائع الجرائد، ولكن في الفترة الأخيرة أصبح تمييز بائع الجرائد أمر شاق، حيث أضاف بائعو الجرائد سلع أخرى، واختفت الجرائد بينها.
التقى إعلام دوت كوم بعدد من بائعي الجرائد، لمعرفة أين وصلت المهنة، وكيف حالهم الآن؟ وكيف كان في زمن مضى؟ لعلنا نجد خبر عند بائعي الخبر.
سمات فرشة بيع الجرائد في 2021
رجل في بداية الأربعينات، مهندم الملابس، يرتدي نظارة، ويجلس على كرسي ويقرأ جريدة، وأمامه فرش يحتوي على جرائد ومجلات وأعلام لناديي الأهلي والزمالك، وكمامات وزجاجات كحول وعبوات مناديل، مسعود أحمد، 41 عاما، بائع جرائد.
وعلى سور محطة مترو جمال عبد الناصر، تجد مجموعة من الكمامات ومستلزماتها وبعض الأوراق، تقترب أكثر فتجد في الأسفل عدد كبير من إصدارات الجرائد والمجلات المختلفة، وبجانبهم الحاج أحمد فلفل، الذي يبيع الجرائد منذ 40 عاما، ويرى أن هناك فرق شاسع بين الماضي والوقت الحالي.
بينما تجد أحزمة وقبعات صوفية، وجوارب وولاعات وأقفال وورنيش أحذية وبطاريات، وفي زاوية جانبية غير مرئية بضعة جرائد، في فرش أحمد ماهر، الذي كان يقتصر على الجرائد فقط منذ بدأ عمه مهنة بيع الجرائد في الخمسينات، ولكنه أضاف السلع السابقة بسبب عدم شراء الجرائد، قال واصفا المهنة: “الشغلانة؟ بايظة، الجورنال دلوقتي مبيكسبش حاجة أساسا”.
وعادل أحمد، الذي ورث مهنة بيع الجرائد أبًا عن جد، يقف في ميدان رمسيس، أمامه فرشة مساحتها حوالي متر في متر ونصف، تحتوي على أشياء عدة، منها: “ورنيش أحذية، أقفال، بطاريات، وسلع أخرى”، وتحتاج إلى تدقيق النظر لترى الجرائد، التي تقبع في سكون وانطفاء في مساحة صغيرة وسط السلع الأخرى المغلفة بالورق اللامع.
ويجلس الحاج رمضان سامي، 70 عاما، على كرسيه بمكان استراتيجي بقلب ميدان التحرير، أمامه فرشة من الكتب وبعض من الجرائد والمجلات تحتاج جهد لرؤيتها، حيث تعتليها مجموعة من الكمامات، ويصف حال مهنة بيع الجرائد الذي قضى فيها 60 عاما، قائلا بابتسامة: “خلاص كل سنة وانتي طيبة، وقعت، الجرائد دلوقتي بتفرفر، في النهاية دلوقتي، والناس محدش بيشتري، الجرائد دلوقتي مش بتتباع محدش بيقراها”.
هل تسمى “كرتونة” لا تتعدى مساحتها 25 *30 سنتيمتر، عليها بضعة علب من المناديل وأسفلهم جريدتين، فرشة لبيع جرائد؟ اتضح أنها فرشة أم أسماء، بائعة الجرائد، التي استلمت المهنة بعد وفاة زوجها.
رغم كل شيء.. لن نترك الجرائد
الكثير رحل وترك المهنة للبحث عن عمل أكثر ربحًا، ولكن الحاج رمضان سامي رفض أن يفعل ذلك، معللا: “أنا داخل على 80 سنة، أغير الشغلانة؟ بقالي 60 سنة في الشغلانة اغيرها أعمل إيه بقى؟ ألم سبارس؟ ألم ورق قديم؟ ما هو دول اللي موجودين دلوقتي”.
ولا تستطع أم أسماء، صاحبة الـ55 عاما، أن تعمل بمهنة أخرى، مبررة: “خدت عليها وشغل الجرائد ده هد حيلنا برضو، بنمشي من بدري ونطلع من بدري، وخدت إن أنا أكلم ده وده يكلمني”.
وطفل بعمر 12 عاما، يبدأ رحلته بالعمل كبائع جرائد، فيزهد اللعب مع رفاقه ويحب القراءة، ويتحول عمله إلى ممارسة ما يحب، ويستمر بالمهنة حتى الآن، 41 عاما، فمسعود أحمد يقضي أوقات جلوسه في الشارع لبيع الجرائد في قراءتها، وحب القراءة هو ما دفعه إلى العودة إلى بيع الجرائد بعد أن تركها منذ 3 سنوات، “رجعت لها علشان بتاعتي أنا اللي أسست الفرشة، ولما رجعت كانت المبيعات متراجعة ورغم كده رجعت ممكن يكون غريب بس أنا بحب القراية أساسا”.
بالمثل، أحمد فلفل، لن يترك مهنته أبدا، فليس له مهنة أخرى غيرها، ويرى أنها مهنة تساعد على الثقافة ونور لمن يقرأ ومن لا يعرف القراءة يتعلمها من الجرائد، ويعرف ما يحدث في الدنيا، قائلا: “هي مهنة صعب إن إحنا نبطلها، طبعا بحبها لأنها مهنة مش وحشة، مهنة كويسة بس المجتمع بتاعنا اللي وحش بتاع الجرائد عنده عيب لكن يحترم بتاع المخدرات وميحترمش بتاع الجرايد”.
وما زال أحمد ماهر يخصص مساحة صغيرة من الفرش للجرائد وسط السلع الأخرى، ويجلس بعيدا عنها، قريبا من باقي السلع، حتى أن الجرائد تبدو وحيدة بلا صاحب، ولكنه يصر على بقائها على الفرش، قائلا: “مكملين في الجرايد لأن فيه تأمينات من 40 سنة، تأمين من الأخبار والأهرام والجمهورية ومكملين علشان كده”.
وعادل أحمد لم يتخلى عن وجود الجريدة على الفرش وسط السلع الأخرى، “هو لازم الجورنال هي خلاص دي شغلانتنا، ناس كتير سابت المهنة بس هي خلاص دي مهنتنتا إحنا متأقلمين عليها فلازم نبيع الجورنال، الجورنال بتاعنا، إحنا معروفين بتوع الجورنال”.
البعض لم يستطع التمسك بالمهنة ورحل، أين ذهب بائعو الجرائد؟
وفي نفس الوقت الذي يقرر مسعود أحمد العودة لمهنة بيع الجرائد بعد تركها بـ3 سنوات، يفر البعض من مهنة بائع الجرائد بسبب ركود البيع، فيه ناس غيرت المهنة، “فيه واحدة كانت بتبيع جرايد وغيرت وتبيع ملابس وطرح”.
“كتير سابوها معظمهم شغالين على تكاتك”، أحمد فلفل.
كثير ممن تركوا بيع الجرائد ذهبوا لأعمال أخرى، ومنهم من عمل في المعمار، “ومنهم اشتغلوا عمال عادية بعد ما كانوا عندهم الفرشة بتاعتهم”، أحمد ماهر.
نقول للزمان ارجع يا زمان.. لو بصينا لزمان هنموت
في بداية سنوات عمله بالمهنة، كان الجميع يقرأ الجرائد، أما الآن فالحاج رمضان سامي يبيع جريدة كل ساعتين، “نقول للزمان ارجع يا زمان، لو بصينا لزمان هنموت”، رمضان سامي.
كانت أم أسماء تمتلك فرشة كبيرة، حيث كانت تبيع 300 نسخة في اليوم، 100 أهرام و100 أخبار و50 جمهورية و30 صوت الأمة، بجانب بعض الإصدارات الأخرى، ولكن مع ارتفاع أسعار الجرائد، تراجعت مبيعات أم أسماء، “دلوقتي ليا زباين معينين بجيب بالعدد، ببيع 2 جمهورية و2 المصري اليوم، و2 المساء، هما 7 أو 8 جرايد بالكتير في اليوم، وكان فيه واحد بياخد المساء بطل ياخد علشان كورونا”.
الربح من بيع 100 جريدة هو 25 جنيها، ورغم ضآلة الربح، إلا أنه لا يتحقق من الأساس، فقد يمر اليوم ولا يبيع عادل أحمد 100 جريدة.
وكان أحمد ماهر يعمل مع عمه على مدار 24 ساعة تقريبا بسبب ضغط بيع وشراء الجرائد، فكانوا من الممكن أن يبيعوا خلال يوم 500 أو 700 أو 1000 أو 2000 جريدة، أما الآن فما يعرض 50 أو 60 جريدة فقط ولا يباع منهم إلا القليل، “زمان كان كله بيحب القراية وبياخد الجورنال، ده يعني كان عبارة عن إيه؟ زي كوباية الشاي كده”، أحمد ماهر.
ويصرح مسعود أحمد، أن مستوى دخل بائع الجرائد في اليوم بالاعتماد على بيع الجرائد بمفردها، وبدون بيع سلع أخرى، لن يزيد عن 30 أو 40 جنيها.لذا الجرائد وحدها لا تكفي
كان يقتصر مسعود على بيع الجرائد فقط، ولكن حاليا أضاف سلع أخرى لزيادة الدخل، وحتى يستطيع الاستمرارية ولا يضطر لتركها، “لو جرايد بس مش هتشتغل مع الوقت هتلاقي إيرادك مش مكفيك وهتضطر تسيبها”، مسعود أحمد.
هذه هي أحوال المهنة التي يدركها مسعود، ويدعمها بسلع أخرى مثل الكمامات والأعلام، ولكن الأساس هو الجرائد، “علشان أنا أعرف أكمل، علشان أنا حابب القراءة نفسها”.
وأضاف أحمد فلفل، سلع أخرى مثل الورق والأقلام والكمامات بجانب الجرائد، “علشان الجورنال النهاردة قل بيعه، الجورنال فيه إيه؟ هبيع طول النهار بكام؟ مش هطلع 25 جنيه، مش مكملين حق مواصلات ولا حق تعليم جامعات، اضطريت طبعا اجيب حاجة جنبها”، أحمد فلفل.
وكان لا بد للحاج رمضان سامي، من وجود سلع تساعد على الربح مثل الكمامات، حيث لا ربح من الجرائد، عكس الماضي الذي كان يقتصر فيه على بيع الجرائد فقط، “إحنا دلوقتي بنبيع قوة قليلة من الجرايد لو اتكلنا على الجرايد بس ولا هنبيع ولا هنشتري مفيش مكسب”.
وبجانب عدد قليل من الجرائد، تبيع أم أسماء عدد من المناديل، “وبروح حمداه شاكراه”.
مواعيد عمل بائع الجرائد
كان العمل من الفجر إلى الظهر يكفي لتأمين نفقات اليوم، قديما، أما الآن تضطر أم أسماء إلى البقاء إلى المساء، “زمان كله كان بياخد زبائن كتير، كان شغل إيه”.
وعادل أحمد كان يكفيه الوقت منذ الفجر وحتى العاشرة صباحا لبيع جرائد الفرشة التي كانت تقتصر على الجرائد فقط، قبل أن تتقلص مساحتها وسط السلع الأخرى، والذهاب للمنزل مبكرا، أما الآن فيقضي عادل يومه كله يضع عدد قليل من الجرائد ولا تباع، “كنا بنيجي 4 الفجر نمشي 10 الصبح، بنبقى خلصنا، دلوقتي بقعد طول اليوم والجرائد هما زي ما هما يعني دول من الفجر اهو” عادل أحمد، مشيرا إلى مجموعة من الجرائد تتراوح بين 50 إلى 100 جريدة، جدير بالذكر أن الساعة كانت 12 ظهرا وقتها.
ويقول مسعود أحمد، إن الفترة من الساعة 12 ظهرا إلى الساعة 5 المغرب، كانت كافية في الماضي لبيع عدد من الجرائد أكثر مما يباع على مدار اليوم الآن، مسعود أحمد.
“زمان كنت بقعد من الساعة 5 الصبح للساعة 5 المغرب وابقى خلصت اللي معايا، إنما دلوقتي لـ9 بليل وبيتبقى معايا حاجات” أحمد فلفل.
لماذا خاصم الناس الجرائد؟
تقول أم أسماء إنه بعد غلاء الجرائد، واتجاه أغلب الزبائن إلى الإنترنت انخفضت المبيعات.
ويرى أحمد فلفل، أن ارتفاع أسعار الجرائد إلى 3 جنيهات، بعد أن كان سعر الجريدة قديما 20 صاغ و5 تعريفة، وغلاء المجلات، بالإضافة إلى وجود الإنترنت أدى إلى تقليل توزيع الجرائد، أيضا كثرة إصدارات الجرائد والمجلات ساعدت في ذلك فبعد أن كانت الإصدارات تقتصر على الأخبار والأهرام والجمهورية والوفد، أصبح الآن يوجد أكثر من 120 إصدار كل يوم، “طبعا ده عبء على الزبون”، أحمد فلفل.
ويضيف أن مجلات مثل حواء، نصف الدنيا، الكواكب، كانت النساء تسارع لشرائها، وكان لها دور في زيادة مبيعات بائع الجرائد، أما الآن فمبيعاتها انخفضت بسبب غلاء أسعارها.ويؤكد عادل أحمد أن الآن لا يوجد قراء فالجميع اتجه إلى الإنترنت، فلماذا يشتري الجريدة وكل شيء متاح على مواقع الشبكة العنكبوتية؟.
القاريء بين الماضي والحاضر
اختلفت نوعية القراء الآن عن الماضي، “بيجيلي الناس الموظفة القديمة قوي، اللي هو غاوي يشتري الجورنال”، عادل أحمد.
والتغيير سمة من سمات الإنسان، ولكن هناك من لم يتغيروا وحافظوا على شراء الجرائد إلى الآن، قال أحمد فلفل: “الزبون القديم هو هو إنما الشباب لا، دلوقتي مفيش غير بقية الزباين القديمة إنما مفيش شاب، الشباب كلها على النت، زمان كان فيه شباب إنما دلوقتي قلت”.
ويرى مسعود أحمد أن القاريء في الماضي كان يعرف ماذا يشتري، أما الآن فمن يشتري إما أنه يشتري على سبيل المحافظة على عادة لأب أو افتقادا لأب أو أم، بالإضافة إلى جزء من كبار السن، وجزء آخر يشتري الجرائد من أجل أخبار الرياضة ومحمد صلاح، فأخبار الكرة تزيد المبيعات، “زبون الجورنال دلوقتي أرقى من الأول، زمان كان الجمهور عام، دلوقتي اللي بيشتري جورنال حقيقي هو حابب القراءة مثقف وفاهم أكتر”.