رباب طلعت
لا شيء أكثر سحرًا على “نتفليكس” من مجموعة الوثائقيات المختلفة التي تقدمها لمشاهديها باستمرار، ليس فقط لإبداعها في طريقة طرح الأفكار إنما لتميز الفكرة نفسها، حتى وإن كانت صادمة، مثل أحدث إنتاجاتها البرنامج الكوميدي الشعبي “تاريخ الكلمات البذيئة – History of Swear Words” الذي يبحث عن أصول وتاريخ الكلمات النابية.
قدم الوثائقي الفنان نيكولاس كيج، وشاركه مجموعة من الخبراء في مجالات الثقافة والتاريخ الشعبيين بالإضافة إلى لغويين وعلماء إدراك وعلماء معاجم، وكذلك ممثلين وكوميديين معروفين للإدلاء بآرائهم وخبراتهم في استخدام تلك الكلمات مثل: سارة سيلفرمان ، ونيك أوفرمان، ونيكي جلاسر، وباتي هاريسون، وأوبن مايك إيجل، وجويل كيم بوستر، وديراي ديفيس، وزينب جونسون، وإيسيا ويتلوك جونيور، ومن الخبراء تحدث بنجامين ك. بيرغن، أستاذ العلوم المعرفية بجامعة كاليفورنيا. ميراي ميلر يونغ، أستاذة دراسات المرأة في جامعة كاليفورنيا؛ الناقد السينمائي إلفيس ميتشل وكاتبة المعاجم ومؤلفة كتاب “كلمة بكلمة: الحياة السرية للقواميس” كوري ستامبر، وميليسا موهر، مؤلفة كتاب عن تاريخ الشتائم.
المسلسل الوثائقي لم يتصدر قائمة ترند نتفليكس، على الرغم من مرور شهر كامل على طرحه على المنصة بعدة لغات من بينها العربية، على خلاف الوثائقي السابق له “Death to 2020″، الذي طرحته المنصة في نهاية 2020، لعل ذلك بسبب جرأة الفكرة التي لابد أنها نفرت البعض منها تحديدًا أولئك المتحفظون على مثل ذلك المحتوى، خاصة أن الحلقات الست التي مدة كل منها 20 دقيقة تحمل كل منها اسم لفظ بذيء أو نابي أو خارج، أيًا تكن ترجمة كلمة “Swear” بالعربية، وهو ظلم كبير للعمل لأن الأمر لا يتعلق بالكلمات نفسها إنما باللغة والتطور الحاصل فيها، وارتباطها بالفن والسياسة والاختلافات الثقافية والعرقية، وفيما يلي نحاول رصد أبرز عوامل جذب السلسلة:
نيكولاس كيج.. المقدم الجذاب
الفنان المعروف نيكولاس كيج من أبرز عوامل جذب الوثائقي للجمهور، فحتى لو اختلف البعض على قيمة أعماله الفنية، فلا أحد يمكنه الاختلاف على جاذبية تقديمه على الشاشة سواء كان للعمل الفني أو حتى لتقديمه مثل ذلك العمل، ظهور كيج ليس كثيرًا خلال الحلقات فقط اقتصر على المقدمة والخاتمة والتعليق على بعض الأفكار إلى أنه ظهور ساحر، حتى في طريقته لنطق الألفاظ البذيئة بأداء يجعل المشاهد يتفاعل معها كأنها كلمات عادية تمامًا لا تحمل أي إيحاء جنسي أو إهانة، مثلها كمن ينادي على شخص من بعيد! أو يعبر عن غضبه من فوق جبل.
أداء “كيج” في التقديم عززه بموهبته في التمثيل، فكان التقديم أشبه بمشهد تمثيلي على المسرح، أيضًا اختيار ديكور التصوير، جلوسه على الكرسي في مكتب فخم وبجانبه طاولة صغيرة يأخذ منها الكتب التي يريد التعليق على ما دون فيها عن تاريخ تلك الألفاظ بات أشبه بغلاف the godfather، الذي يظهر عليه مارلون براندو “فيتو كارولوني” الأب، كما تستعيد جلسته على الكرسي للذهن أيضًا ظهور مورجان فريمان في وثائقي ناشيونال جيوغرافيك الشهير والمتواجد أيضًا على نتفليكس حاليًا “The Story of God with”، الذي ظهر خلال المسلسل وهو يجلس على كرسي لكنه كان بسيط للغاية خشبي بخلفية مرسوم عليها رموز تاريخية تدل على مفهوم الآلهة في الحضارات المختلفة، إلا أن فريمان كان يجول في مدن ويقابل أناس خارج الاستوديو للبحث عن حقيقة الله، وكان معتمدًا بشكل كبير على محاورة فريمان للآخرين ما جعل ظهوره أكثر من نيكولاس، بالإضافة للاختلاف الأبرز بينهما وهو نبرة الصوت، ففريمان اعتمد الصوت الهادئ والأداء التقديمي البسيط، على عكس نيكولاج تمامًا الذي كان يتلاعب صعودًا وانخفاضًا بصوته، ولعل تلك الاختلافات كانت لخدمة الرسالة من الوثائقي فقصة الإله حوار أديان يهم البشر جميعًا فسيسمعونه ويهتمون به حتى بأخفض النبرات الصوتية، كذلك لا مجال للصراخ هنا التفاهم أفضل، ولكن تاريخ الألفاظ النابية يحمل رسالة تمردية على النظر لتلك الكلمات على إنها لا تصلح ولا يصح التفوه بها أو مناقشتها حتى ولو بالدراسة والبحث عن تاريخها.
مع كل ما سبق نضيف أيضًا أن المسلسل كشف الغطاء عن موهبة نيكولاس كيج في التقديم، ولعلها فرصة لتجربة ذلك قريبًا لعله يعوض تراجعه السينمائي خلال الأعوام الماضية.
المزج بين الفن والعلم والسياسة وأشياء أخرى
اختيار ذلك الكم من التنوع في اختيار المتحدثين أيضًا عامل جذاب للغاية، فمع اختيار نجم كبير لتقديم السلسلة وطريقة ظهوره وتقديمه الموفقة، كان لا بد من جذب شرائح أخرى من الجمهور، فالمراهقين ومحبي الفنون بأنواعها سواء الكوميديا أو الغناء من الهيب هوب والراب وغيرهما سيجدون مجموعة من الفنانين من أعراق وميول وثقافة مختلفة، أما النقاد والمتحفظين وحتى الجمهور العادي الذي سوف يتساءل لم ذلك المحتوى تحديدًا ستكون الإجابة عند المختصين في مجالات تطور اللغة وتحديث القواميس، والنقاد الفنيين، والمؤرخين والمختصين في الشعبيات ودراسات المرأة.
المزج بينهم لم يقتصر على اختيار الضيوف، بل أيضًا في طريقة عرض الآراء، فستجد خلال الحلقات تنقلات ما بين شرح التطور اللغوي للكلمات، وتاريخ استخداماتها وتأثيرها على الفن وارتباط استخدامها بالأحداث السياسية والتاريخية، واختلافات تقبلها أو عدمه بحسب الأعراق والميول الجنسية المختلفة أو الجنس نفسه ذكر أو أنثي، أبيض أو أسمر، بالإضافة لطريقة استخدامها هل للإهانة أم الإشادة، هل تعبير عن الغضب أم السعادة وغيرها من الأمور، فالمختصين يتحدثون بجدية في شرح المحتوى العلمي، والفنانون والكوميديون يضيفون متعة وابتسامة عفوية بردود أفعالهم وتعليقاتهم على المعلومات التي يتلقونها من المختصين، أو ذكريات سماعهم للكلمة لأول مرة في عمل فني سواء سينما أو تلفزيون أو أغنية، وكذلك استخدامات كل منهم لتلك الكلمة، مع التعزيز البصري للمعلومات والمواقف والمشاهد الفنية والأغنيات التي تظهر على الشاشة أثناء حديثهم.
دراسة تطور اللغة.. هنا يبدأ وينتهي كل شيء
“ما هدف العمل؟” ذلك السؤال هو الأهم على كل حال، وإن لم تكن الحلقات نجحت في الإجابة عليه لكان العمل أصبح مجرد هراء، أو تباهي باختراق الممنوع والحديث عن ألفاظ يتم تصنيفها في المجتمع في كافة المجتمعات على إنها “عيب” و”غير لائقة”، وتسبب صدمة لمن يسمعها، خاصة في الأوساط الراقية حيث كثيرًا ما يتم ربطها بالمستويات الأكثر فقرًا، ولكن العمل غير تلك المفاهيم تمامًا.
السرد التاريخي لتطور معنى المصطلحات نفسها في القواميس، واستخداماتها في المجتمع والقصص الشعبية حولها، هو أهم محور دارت حوله الحلقات، فتلك الكلمات الإنجليزية الأكثر نبذًا في المجتمع كان أصل أحدها يستخدم لوصف “الهرة”، وآخر لوصف “سوط ضرب الحصان”، على سبيل المثال، ثم يبدأ المختصون في شرح التطور الذي أدى لاستخدامها ككلمة نابية، وهنا نصل إلى أنه ولا مصطلح منهم بذيء في أصله ولكن المجتمع فجأة قرر تصنيفه بذلك.. فماذا لو غيرنا وجهة نظره واعتبرناه مصطلح وصفي طبيعي؟!
إلقاء الضوء أيضًا على متى بدأ استخدام تلك المصطلحات في الفنون المختلفة، كشف الكثير من الأمور، أولها كيفية تأثير الفن على استخدام تلك الكلمات في المجتمع، فلولا الاستماع لها علنيًا لأول مرة على لسان فنان أو بين كلمات أغنية لم يكن الكثيرون استخدموها، كما علقت إحدى الفنانات: “لم أكن استخدمها ولكني استخدمتها بعدما ظهرت أغنية تحمل اسمها فأصبحت أخبر والداي بأنها مجرد أغنية وليست سبة” بالإضافة لتأثير الفن على إشعال احتجاجات سياسية باستخدام تلك الكلمات بعينها كرمز للاحتجاج وهو ما يوازي حاليًا عمل “الهاشتاجات” على السوشيال ميديا، أو العكس أن الأحداث السياسية البارزة هي من تسمح للمؤلفين والفنانين بإدراج تلك الكلمات في نصوصهم وبالتالي تتحول لشيء عادي في المجتمع، أي أن الفن له تأثير بالفعل على تغيير النظرة لتلك الكلمات، وبالقياس على تلك النقطة تحديدًا، نرى ذلك جليًا في الأعمال الدرامية المصرية، حيث إنه خلال السنوات القليلة الماضية باتت بعض الكلمات “الشتائم” تحديدًا تظهر فيها وقلة حدة الاحتجاجات عليها سواء من الرقابة أو الجمهور بعد التعود عليها، بل وأصبحت دارجة أيضًا في الأوساط الثقافية والاجتماعية المختلفة ولم تعد تقتصر على فئة البلطجية أو العشوائيات والمناطق الشعبية كما كان يظن البعض، وذلك أيضًا جانب سلط عليه الوثائقي الضوء، أن تلك الكلمات تم تداولها عند مجتمعات السود في أمريكا قبل البيض، وذلك كنوع من التمرد على التميز الذي وضعه الرجل الأبيض في أمريكا لنفسه، أو أن الكلمات من الممكن أن تكون مقبولة أثناء نعت امرأة بها على سبيل المزاح ولكن كإهانة لا، وأن بعض الكلمات وقعها على الرجل أشد إهانة من السيدات، وأن بعض الكلمات استخدمت في الأساس لإهانة المثليين والنيل منهم، ولكنها تستخدم فيما بينهم كشفرة تفاهم بأننا تعرضنا للتنمر بها من قبل! بالإضافة إلى نبرة الصوت وسياق استخدامها هو ما يحدد ما إذا كانت مدح أو إهانة أو غيرها من طرق التنفيس عن الغضب أو الفرحة العارمة.
لم تغفل السلسلة بجانب الدراسات المتخصصة في اللغة والفن عن الدراسات النفسية، ففي تجربة أجراها فريق العمل على المتحدثين طلبوا منهم وضع أيديهم في الثلج لثلث ساعة كاملة، وتم السماح لفريق منهم بالسب والآخرين فلا، فظهر أن الفصيل الذي ظل يستخدم السباب طوال العشرون دقيقة استطاعوا وضع أيديهم مدة أطول مع شعور أقل للألم، على النقيض من الآخرين الذين كانوا يصرخون من شدة الألم، وجاء توضيح ذلك بأن هناك دراسة تؤكد أن السباب يجعل صاحبه يتحمل الألم سواء النفسي أو الجسدي أكثر، ولذلك يلجأ البعض حتى ممن لا يشتمون في الحياة الطبيعية يصرخون بألفاظ نابية أثناء تعرضهم للألم وذلك لأن السباب يخرج من الجزء الأوسط في المخ، الذي يشاركه الإنسان مع الحيوان، وهو المسؤول عن الحركات اللاإرادية التي يفعلها الجسم خلال المواقف المفاجأة.
الترجمة في ورطة
بعيدًا عن محتوى العمل نفسه، فإن الترجمة عامل جذب لمشاهدة العمل، كفضول لمعرفة كيف سيتناول المترجمون تلك الألفاظ فهم في ورطة كبيرة، فعلى الرغم من أن لفظ الكلمات جاء سهلًا على لسان المتحدثين في العلم لكن كتابتها أمر آخر، وهو ما وقعت فيه بالفعل الترجمة العربية، حيث جاءت الترجمة كالمتوقع تمامًا لا تمت لمعاني الكلمات بصلة، ويجب على المشاهد الذي لا يجيد الإنجليزية أن يخمنها من شرحها خلال الحلقة، وذلك أمر كوميدي للغاية، يعيد للأذهان ترجمة القنوات العربية للشتائم في الأعمال الأجنبية والتي تندرج كلها تحت “تبًا” و”تبًا” بريئة منها تمامًا، ولكن ذلك مقبولًا نوعًا ما على القنوات ولكنه غريب على “نتفليكس” صاحبة العمل نفسه الذي يتحدث عن أصل تلك الكلمات التي بالفعل لها مرادفات عربية هي أيضًا تستخدم كشتائم أو ككلمات نابية، ولعل الفضول الذي أثاره العمل من استعراض الأصل اللغوي والتاريخي لتلك الكلمات يجعلنا نطمح بأن تقدم “نتفليكس” عملًا مشابهًا عن اللغة العربية، فدراسة أصول الكلمات حتى ولو كانت نابية موضوع مثير للغاية.