سامح الزهار
أظن أن كتابة التاريخ هي أحد أصعب الأمور وأكثرها جهدًا وبحثًا من حيث التقصي والدراسة والتدقيق من الناحيتين العلمية والأدبية، ولكن التاريخ في حد ذاته وخاصة الاجتماعي منه يحتاج إلى يد مُحبة تكتبه، فالوقت الذي يحتاج إليه الكاتب كي يقدم مادته التاريخية في كتاب ربما يكون أضعاف الوقت الذي يسرد فيه روايته أو مجموعته القصصية، ليس لأن الأعمال الأدبية بالأمر اليسير ولكن لأن العمل الإبداعي ذو الصبغة التاريخية يعتمد على الجهدين العلمي والأدبي معًا، وهذا ما يقدمه (عمر طاهر) ببراعة.
يقدم “طاهر” مادته التاريخية المُدققة بعيدًا عن “هوس الترند” وموضة “النوستالجيا” في أطر إبداعية أدبية ما بين السرد والقصة والموضوع، مما يجعل التاريخ الذي يكتبه مادة تحظى بإعجاب الجمهور لا سيما المؤرخين، وأظن أن هذا تجلى في كتبه “إذاعة الأغاني”، “صنايعية مصر”، و”من علم عبد الناصر شرب السجائر”.
لا يعتمد عمر طاهر على الكتابة أو الإشارة إلى الشخصيات التاريخية من المستوى الأول فقط، والمستوى الأول يُقصد به كبار الشخصيات التاريخية من القادة والزعماء والمشهورين للعامة والخاصة، ولكنه يتتبع في أغلب الأحيان سيرة الشخصيات التاريخية من المستوى الثالث، فأهل التاريخ غالبًا يركزون على سرد التاريخ لشخصيات المستوى الأول من الحكام والقادة والأمراء والسلاطين، وبعضهم يذهب إلى شخصيات المستوى الثاني من أصحاب التأثير ومن في مستواهم ويضيف عليهم العلماء والأئمة، ولا تُذكر شخصيات المستوى الثالث إلا بين سطور التاريخ مبعثرة، فيصعب على القارئ تكوين معلومة تاريخية مرتبطة بأصحاب هذا المستوى.
وهنا يأتي “طاهر” فيحكي ويروي عن تلك الشخصيات التي لم تحظى بوافر من الشهرة وهم غالبا القائمون بصناعة الأحداث التاريخية، والأبطال الحقيقيون للقصص التاريخي، وهذا ما وضح جليًا في أعماله خاصة في “صنايعية مصر” هذا العمل الإنساني البديع الذي قدم ثلاثية التاريخ بإمتياز وهي الإنسان والزمان والمكان.
أرى أن ما يقدمه عمر طاهر من أسلوب في سرده للحدث التاريخي سواء في قالب روائي أو قصصي أو كتابة صحفية رشيقة هو حتمية زمنية، فمع تطور المسار الإسطوغرافي للمدارس التاريخية الغربية، وعلى رأسها الحوليات، يمكننا أن نقول أن التاريخ خرج من دائرة التخصص الضيق والكتابة للمشتغلين في التاريخ وحدهم إلى الانفتاح على جمهور واسع من القراء، فأصبح الكاتب يرصد التاريخ وأصبح المؤرخ مُقدرًا لجهده دون نظريات الكهنوت التاريخي القديمة، بل إن أفكار الكاتب في التاريخ لم تعد تصل إلى المتلقي عبر الكتاب فقط، وإنما عبر مختلف قنوات الاتصال من صحف وإذاعات ووسائل اتصال مختلفة أحدثها وسائل التواصل الاجتماعي، كما أصبح يسهم في كل النقاشات من النظري المحض إلى المعيش اليومي، فأصبحت المقاربة التاريخية حاضرة ومعبرة ومؤثرة، والثقافة التاريخية نافعة، شائعة، وذائعة، ويمكن رصد هذا بشكل مستمر في أعمال “طاهر” وأظن أن “من علم عبد الناصر شرب السجائر” فيه دلالات عميقة لذلك.
في “إذاعة الأغاني” قدم عمر طاهر قراءة إنسانية بديعة للتاريخ من خلال عدد من الأغاني أسهمت في تكوين جزء من وجدان المصريين، وهي قراءة تاريخية من نوع خاص، أعتقد أنها تمت من زوايا عديدة، فبينما تهتم الدراسات الإنسانية كافة بأن تحفظ التجربة الإنسانية، وتنقلها وتفسرها في الحاضر، يلتزم التاريخ أساسًا بأن يستدعي الماضي، ثم يعيد بناءه بمنهجه الاستردادي، كما يعيد قراءته أو تفسيره بحيث يخلق صلة بينه وبين الحاضر ويترجمه إلى صيغة يستطيع الجيل الحاضر أن يستخدمهـا لصالحه.
هنا جاء “طاهر” وأضاف اختلافًا في قراءته للتاريخ من عصر إلى عصر آخر باحثًا عن الصيغة المناسبة للقارئ في حاضرها، ربما لعلمه ومعرفته الواسعة بالتغير الدائم الذي تخضع له الإنسانية وفي كل تغير جديد في الحياة الاجتماعية فقد حمل رؤية جديدة أعاد بها قراءة الماضي بحثًا عن عناصر كامنة تربط هذا الماضي بحاضر المصريين.
من خلال هذا الرصد ذو السياق التاريخي للكاتب عمر طاهر ولأعماله التي أثرت المكتبة العربية أظن أننا أمام مؤرخ اجتماعي من طراز رفيع على طريقة كبار مؤرخي العصور الوسطى ولكن بحداثته ووعيه بمفردات ومرادفات زمنه، كما أنني لا أجد أي مبالغة إذا طالبت وزارة التربية التعليم المصرية بتدريس كتاب “صنايعية مصر” ضمن المقررات الدراسية ولو تحت عنوان الدراسات الإنسانية، كي نقدم للجيل الجديد القدوة الحسنة والنموذج القريب الذي يحاول أن يقترب منه ويرى فيه الأمل والنور ويعلمون أنه بإمكانك أن تدخل التاريخ وأن تكون مؤثرًا إذا أخلصت إلى حلمك وصدقته.. وللحديث بقية.