محمد مصطفى عزوز
في كل الحلقات السابقة وضعنا أساساً علمياً منطقياً لتحليل التصوف بداية من نشأته وصولاً إلى علمه هنا سنضع أنفسنا أمام سؤالاً حقيقياً فرضه المنطق .. هل التصوف منهج تواكل أم رسالة للعمل والجد أم رؤية روحية؟
طرح الكثير من منتقدي التصوف أنه مبدأ تواكل وعمل من ليس له عمل بل وقيل أن التصوف هو المبرر الحقيقي لناقصي الطموح والإجابة عن سؤال كهذا يجب أن لا تكون بالقول بل بنفس الطريقة المنطقية المتفق عليها في تلك الحلقات ولكن سنستخدم في الإجابة سيرة أحد أوائل وعظماء المتصوفة ألا وهو المتصوف الزاهد إبراهيم أبن أدهم.
إبراهيم ابن أدهم ينحدر من أسرة ملكية أي أنه من نسل الملوك ولد في أوائل القرن الثاني الهجري كان مترفاً منعماً حيثُ أنه أميراً، ذات يوم خرج للصيد هو وخادمه فطارد تعلباً ليصطاده فجاءه هاتف حقيقي قال له “الله .. ألهذا خلقت !!” ومن هنا كان طريق الهداية لإبراهيم ابن أدهم، ونهج نهج التصوف.
وهنا السؤال هل تفرغ إبراهيم ابن أدهم للعبادة؟ سنجد الإجابة العكس تماما، بداية لم يكن الفقر إجباراً لابن أدهم بل اختياراً منه ولم يكن التصوف مبرراً بل طريقاً له لقد ترك ابن أدهم كل ما ورثه عن أباه من أملاك وملك وأختار أن يعمل ويكد ويسعى لرزق الله.
ترك رداء الملك ليدخل في معية الملك سبحانه وتعالى، بل والأكثر من ذلك كان عاملاً يكسب قوته بيديه ومجاهداً فقد كان من كبار المجاهدين في الحروب مع البيزنطيين لدرجة أنه عند وفاته وعندما شعر أن أجله قد دنا في إحدى معارك الجهاد مع البيزنطيين طلب قوساً فيه سهم وقبض على القوس إلى أن خرجت روحه وهو قابض على سهمه كما كان قابض على دينه.
التصوف في الحقيقة هو عبادة وتنقية روحية يلتزم فيها الإنسان في الطريق ويرتفع في الدرجات وأن كان بعض المتصوفة مبرراً للفقر فهذا لا يعيب التصوف في شيء فالحقيقة أن عظماء العلماء والفقهاء والمحدثين والمؤرخين بل والفلاسفة كابن سينا وغيره كان متصوفة للدرجة التي أحدثت خلافاً حاداً بينهم في رؤيتهم للتصوف كصراع أبو حامد الغزالي و ابن رشد، إن التصوف هو تصفية الروح وترقية النفس لا علاقة لها بكونك حاكماً أو محكوماً عالماً أو معلوماً فعوام الصوفية يشغلهم مليء أوقاتهم بالذكر والسير على الطريق ولا يوجد شيخاً يؤمر أتباعه بالكف عن العمل والتفرغ للعبادة، بل أن جل أكابر الصوفية يؤمرون بالعمل والجهاد في سبيل الله بالقول والفعل قبل الجهاد بالنفس بل أننا سنذكر في الحلقات القادمة دور السيد البدوي والسيد الشاذلي في جهاد الصليبين وهم من أقطاب التصوف، إننا سنجد أبو حامد الغزالي من أعظم علماء التصوف فهو أول من قدم نظرية إسلامية فقهية عن أنه لابد أن ينفر فئة من المسلمين للتخصص في العلوم الحياتية كالطب والفلك والرياضيات حتى يسقط ذلك التكليف عن عموم الأمة، سنجد أن ابن سينا مؤسس علم الطب كان متصوفاً سنجد أن الحضارة الإسلامية في جهادها وعلمها بل وإيمانها وفقهها متصوفة سنجد أن الأمام مالك يلزم الفقيه أن يكون صوفياً والصوفي أن يكون فقيهاً، أنه طريق بالمنطق والعلم لا بالمجاز والخرافة أرساه رسول الله ليكون مسلك العباد من يوم قيام الدين إلى قيام الساعة.