مئات من الشباب يقفون فى طابور طويل قبل ميعاد الحفلة بساعة كاملة ، كنت أحد هؤلاء الذين حصلوا على تذكرة الدخول لصوت من أصوات الجنة ، وانتظرت طويلاً حتى ظهرت ، كغجرية من وراء التاريخ اعتلت مسرح مكتبة الإسكندرية ، دينا الوديدى لا تمهلك فرصة لتتذوق صوتها تخطفك منذ اللحظة الأولى كملكة تتربع على عرش المسرح ، وقبل أن يحيها جمهورها تسيدت المسرح والمكان والنغمات لتلتهب أكف كل الحاضرين بالتصفيق .
دينا الوديدى بشعرها الغجرى المجنون ، وبنغماتها الخلابة خطفت كل الحاضرين لتطير بهم وتسافر فى كل الدنيا لمدة ثلاث ساعات لم تهبط خلالها ولم نهبط معها ، حلق الجميع فى فضاء هذا الصوت الرخيم ، وبأداء فنانة منغمسة فى موسيقاها وفنها حتى النخاع ، تراقب نفسك باستغراب وأنت تصفق وتصفر وتبكى وتضحك ، ليلة كالحلم وفنانة لا تستحق سوى فردوس دانتى ، صوت من عالم آخر وأداء من الجنة تتصوف معه وتتمرد وتسمو به على كل قبح .
أما عن موضوعات الأغانى فهى بعيدة تماماً عما صممنا به آذاننا طويلاً مثل حبتنى وسبتنى وخانتنى تعبتنى هجرتنى ، موضوعات تثير فكرك قبل أن تثير الموسيقى وجدانك لتجد نفسك فى حالة وجدانية كاملة تشبع الروح وترضى العقل وتثير الوجدان ، تجدها تغنى لتقدم لك طرحاً جديداً عن مفهوم كلمة الحرام لتقول ” الحرام هو الحرام يا عم يا بتاع الكلام ، الحرام مش أنى أغني ، الحرام مش أنى أحب ، الحرام مش هو فنى ، الحرام مش أنى أحس ده الحرام هو الكلام اللى نصه يا عم كدب .
تنتهى من أغنيتها لتجد مئات الشباب اللى يفرح ويشرف بيصرخ فى صوت واحد السيرة يا دينا ، وهنا تنزل دينا على رغباتهم لتغنى السيرة الهلالية كما لم يغنيها أحد ، وهنا تجد الجميع قد هب واقفاً ليغنى معها متحمساً ” لازم انزل الحرب بكرة طبول البلاوي حزينة ولا خلي ولا بنت بِكرة الا أما تِشلي حزينة ” ، وتتسيد دينا المسرح كأحد أبطال الملحمة الشعبية التى سقطت سهواً من الراوي ، وهنا يزداد التصفيق وتزداد حالة النشوة ، لصوت من مصر ، مصر بلد الفن والجمال والإبداع ، مشهد يستحق أن يُدرج فى مقررات علم الجمال ، مشهد يعيد مصر الجميلة .
وهنا رأيت بعيني كيف أن هؤلاء الشباب السكارى فى الفن الجميل متعطشين لكل ما هو جميل ، نفس الوجوه التى تراها فى حفلات عمر خيرت ، ومنال محيى الدين ، والمولوية ، نفس هؤلاء الشباب الذين احتفلوا ورقصوا وعشقوا تلك الثواني القليلة التى طل فيها صوت عفاف راضى الملائكي من خلال اعلان مؤسسة مجدى يعقوب وتمنوا أن تعود المطربة الملائكية مرة أخرى اليهم لتغسل أرواحهم التى غطتها سنوات من السوء والضحالة والإسفاف ، لم أرى فى هؤلاء وجهاً يشتبه أن يكون داعشياً ، لم أرى فى هؤلاء إخوانياً ولا سلفياً ، لم أجد فيهم شكلاً يصلح لسموم حسن البنا ولا تطرف سيد قطب ولا سيوف ابن تيمية ، وجدت فيهم أرواح نقية شفافة تهتز لكل ما هو جميل ، بداخلها طاقات فياضة متحفزة يكاد نورها يضىء ، وانتهت مدة الحفلة وخرج الجميع بنظام كما دخلوا بنظام ، وكيف لا والجميع مشحون بطاقة نورانية من الموسيقى والفن والجمال .
وفى الخارج كانت بقايا الملحمة ، بقايا أطول مائدة افطار فى العالم تنافس على دخول موسوعة جينس ، بقايا طعام وقمامة مشاهد بائسة كادت تفتك بحالة النشوة التى هيمتنى من صوت دينا الوديدى ، كنت أرى مشهداً بائساً اعتقد أصحابه أنه إنجازاً ، انجاز على غرار طبق الكشرى الأكبر فى العالم ، كان انجازاً فى خطف الطعام وبعثرة القمامة وهنا تجسدت أمامي كلمات ابن خلدون عندما قال عن العرب ” وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث وينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ” .
مشهدين أحدهما كان إنجازاً حقيقياً والثانى كان خيبة وويبة ، أما المشهد الثالث فكان وقت صلاة الفجر فى مسجد كان يحمل اسماً ذا طبيعة خاصة ، اسماً خطيراً مسجد ابن تيمية أغرانى الإسم بالدخول ، وبعدها صدحت مآذنه لتقول كعادة مساجدنا من عشرات السنين ” اللهم انصرنا على اليهود والنصارى أعدائك أعداء الدين ” سنوات طويلة بنفس الدعاء الذى لم يتحقق بل دائماً ما كان يتحقق العكس، وبعد أن انتهى الشيخ من الدعاء والانتقام السيكولوجي من أعدائه وهزيمتهم فقط من خلال الميكروفون ، ألهب الحضور بخطبة عصماء عن المحرمات فى الصيام والصلاة والحياة والعيشة واللى عيشنها ، حرام حرام حرام ، وعندما انتهيت وخرجت وجدتنى لم أصدق هذا الشيخ ، لم أجد فيه تدين جدتي الفطري ، ولا شفافية أمي وهي تقرأ القرآن ، أدركت أنه كاذب ، وهنا وجدتني أردد كلمات دينا الوديدى ” الحرام هو الكلام اللى نصه يا عم كدب ” وأنا بصراحة ما أقدرش أصدق ان الجنة اللى كنت عايش فيها مع دينا الوديدى حرام ، ولا من مزامير الشيطان زى ما قال ابن تيمية .
انتهت المشاهد الثلاثة لأجد نفسي فى تلك الحكاية التى حكتها دينا الوديدى منذ ساعات على المسرح وعن بلاد العجايب ” ف بلاد العجايب يابا ، وسمِعنا الحكاوي يابا ، وبدأنا الخطاوي يابا ، دَوَشِتنا الحَكاوي يابا ، وخانتنا الخطاوي يابا ، ف بلاد العجايب شوف .
عموماً أنا حكيت لكم على بلاد العجايب وعلى كذا مصر ، اختاروا بقى مصر اللى انتوا عايزينها …
مصر اللى بتخطف الأكل وبتزبل الشارع …
ولا مصر ابن تيمية وسيد قطب ….
ولا مصر الجميلة ….
ومهما اخترت حتفضل مصر واحدة … مصر جميلة .