رباب طلعت
نجحت تجارب منصات البث التلفزيوني التدفقي خلال السنوات الماضية، في جذب شريحة كبيرة من المشاهدين خاصة ممن لا تتناسب أوقاتهم مع انتظار مواعيد بث المسلسلات والأفلام عبر التلفزيون، ما جعل القنوات التلفزيونية نفسها تتجه إلى إنشاء منصات خاصة لبث محتواها عليها بل ووضع محتوى حصري وخاص بتلك المنصات كي تحافظ على وجودها في خضم المنافسة الشرسة لثورة البث التدفقي، وتحافظ أيضًا على المشاهدات، وهو ما يجب أن تلتفت له محطات الراديو في منافستها مع نظيرها الأحدث “البودكاست”.
على الرغم من الانتشار البطيء للبودكاست في العالم العربي، بشكل عام وفي مصر بشكل خاص، مقارنة بشعبيته وتوسعه في أمريكا والعالم الغربي وآسيا، إلا أنه بدأ في جذب شريحة كبيرة من فئة الشباب الأقل ارتباطًا بالراديو، عن سابقيهم ممن شكل أثير الإذاعة جزءًا أساسيًا في وجدانهم وذكرياتهم، ما يهدد صناعة الراديو التي تعاني بالفعل من انصراف الجمهور عنها، مع احتفاظ عدد من المحطات القليلة على مستمعيها لقدرتها على التطور ومحاكاة متطلباتهم، ولكن هل تصمد إذا ما نجح صناع البودكاست في الوصول إلى مستمعي الراديو؟
للإجابة على السؤال السابق، يجب رصد عدد من المميزات التي يتفوق فيها البودكاست عن الراديو والتي ترجح كفته لدى فئة الشباب تحديدًا، وأهمها أن إنتاجاته تتبع ثيمة محددة، تحت طلب متابعيها، فمثلًا محبي القراءة والثقافة يبحثون عن قنوات بودكاست تقدم كتبًا صوتيًا أو مناقشات ذات طابع ثقافي وأدبي أو حوارات مع شخصيات ثقافية وغيره مما يناسب المستمع المثقف، ومحب الرياضة أو السينما أو التكنولوجيا سيبحث عن غايته في محطات مشابهة، ولن يكون مضطرًا للاستماع لأشياء لا تناسب ذائقته انتظارًا لما يناسبه، وهنا إشارة إلى ميزة أخرى وهي أن مستمع البودكاست هو الذي يذهب بحثًا عن ما يناسب ذائقته، وذلك عكس الراديو الذي يذهب بنفسه للمستمع والقصد هنا بتعبير “يذهب إليه” أنه يعتمد محتوى وخطة برامجية خاصة به بناء على أوقات معينة تستهدف شريحة من المستمعين في أوقات ذروة المرور مثلًا، فالبرامج الصباحية تُبث في وقت الذهاب للمدارس والأشغال، وفي وقت العودة تهتم المحطات بوضع البرامج الأكثر جذبًا للجمهور لضمان زيادة عدد المستمعين، وفي رمضان تزداد البرامج الدينية تماشيًا مع أجواء الشهر الكريم، وهو ما يبلي حسنًا مع هواة الراديو وبعض المستمعين، ولكنهم سرعان ما يبحثون عن محطة أخرى تقدم لهم محتوى آخر إذا لم يجدوا في الأولى غايتهم، وذلك الاختلاف الجوهري بين البودكاست والراديو، فالأول يتيح اختيارات تتناسب مع كافة الاهتمامات والثاني يفرض اختياراته على الجمهور.
على الرغم من توجه الكثير من محطات الراديو مؤخرًا لأرشفة محتوى برامجها المهمة من خلال البث المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أو استقطاع فقرات منها ووضعها على قنواتهم الخاصة على اليوتيوب، إلا أن تلك الطريقة في الأرشفة لا تجدي نفعًا مع محبي الاستماع أكثر من المشاهدة، بالإضافة إلى أنها تحتاج إلى تفرغ لمشاهدة الفيديو بما يتعارض مع أهم مميزات الراديو من الأساس وهو أنه محتوى يحتاج لحاسة واحدة فقط وهي السمع لتلقيه، وذلك مما تفوق فيه البودكاست أيضًا فالمحتوى من الأساس هو عبارة عن ملفات صوتية، وبعضها مرئي لمحبي المشاهدة، متواجد في مكان محدد سواء موقع أو قناة أو تطبيق على الهواتف الذكية ويمكن تحميله للاستماع إليه في أي وقت كيفما يشاء حتى مع عدم توفر خدمة الإنترنت، ومن المميزات أيضًا هو عدم شرطية وجود محتوى البودكاست على منصة واحدة بل يمكن توزيعه على نقاط توزيع متعددة مثل: “أي تيونز” و”ستيكر راديو”، و”بودكاتشر”، على عكس محطات الراديو التي تتواجد فقط عبر منصات الخاصة بالمحطة الواحدة.
من مميزات البودكاست أيضًا سهولة إرسالة إشعارات للمشتركين برفع محتوى جديد عبر خاصية الـ (RSS)، وهو ما تفتقر له محطات الراديو، وإن كانت تنويهات البرامج تفعل ذلك جزئيًا ولكن مع ما تراه المحطة مهمًا، وليس ما يعبر عن اهتمام المستمعين بالفعل، كما إنها لا توفر خدمة إرسال الإشعارات للمستمعين.
ميزة مهمة أيضًا للبودكاست، هو التنوع الواسع سواء في المحتوى أو المتحدثين، ففي حالة اهتمام أحدهم بالتكنولوجيا، أمامه مئات المواضيع المتعلقة بها، وأيضًا هناك الكثير ممن يقدمون ذلك المحتوى، فإذا لم يعجبه أسلوب أحدهم سيجذبه آخر، أي أنه لا يفرض عليه مقدم المحتوى، بل لديه حرية اختياره، وعلى الرغم من أن كفة الاحتراف يربح بها مذيعو الراديو، إلا أن الفئة المستهدفة من البودكاست أصبحت لا يعنيها الاحتراف في التقديم أو الأساليب التقليدية، بل يجذبهم الخروج عن النص والعفوية في التقديم، فهناك مساحة واسعة للإبداع في طرق تقديم المحتوى.
المحتوى التعليمي من أكثر ما يميز البودكاست، فهناك الآلاف من المحتوى التعليمي سواء كان تعليم لغات مختلفة، أو علوم متخصصة أو دروس تربوية ونفسية وغيرها، وهو ما يصعب طرحه في الراديو، وتلك تحديدًا هي أكثر أنواع البودكاست استماعًا من الجمهور.
والحديث عن توسع محتوى البودكاست لا يعني العكس في الراديو، ولكن محتوى الراديو عليه الكثير من القيود، منها سياسة وفكر كل محطة، وخريطة البرامج التي تسعى لتناول أكبر عدد ممكن من المواضيع، وهو مما يضع كثير من البرامج في فخ التكرار، خاصة إذا وجد “ترند” جديد تريد كافة البرامج تناوله، ما يصيب المستمع كثيرًا بالملل.
من أكثر المميزات التي تخدم البودكاست أيضًا هي الإحصائيات الدقيقة، وهو ما تعاني منه محطات الإذاعة منذ سنوات، فلا يوجد هناك دراسات وإحصائيات دقيقة بما يفضله مستمع الراديو، فقط بعض الإحصاءات المتعلقة بمن أكثر البرامج استماعًا، وذلك لا يوضح هل ذلك من جهود فريق الإعداد في عرض المحتوى، أم أنه بسبب المذيع نفسه، بالإضافة لبعض الأرقام عن زيادة المشاهدات في أوقات عن غيرها، لكن في البودكاست، هناك أرقام واضحة وصريحة، فمن خلال عدد الاستماع والتحميل المتوفر على مراكز توزيع البودكاست يمكن معرفة ودراسة مفضلات الجمهور بشكل دقيق.
على الرغم من كل تلك المميزات التي يتمتع بها البودكاست، إلا أن الراديو يتفوق عليه في عدد من المميزات أبرزها الاعتبارات التقنية والفنية مثل الصوت وامتلاك مكاتب الموسيقى الأصلية، وصفقات الحصول على حصرية بث بعض الأغاني، بالإضافة لسهولة الوصول للمشاهير وعمل حوارات معهم، والمسلسلات الإذاعية، والسرعة والحصرية في نقل الأخبار ومناقشة الأحداث، ونقل المباريات، والمحتوى الذي لا يصلح إلا للراديو، بجانب الكوادر والخبرات القائمة على محطات الراديو.
وأيضًا من أهم مميزات الراديو جمهوره المخلص، هواة الراديو ممن اعتادوا على الاستماع إلى أثير الإذاعة، كذلك إمكانية تفاعل الجمهور مع المذيعين والتعليق على محتوى الحلقات من خلال الاتصالات الهاتفية أو الرسائل القصيرة أو عبر صفحة البرنامج الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يجعل الراديو أكثر حياة من البودكاست.
بعد التوسع الكبير للبودكاست، عكفت الكثير من محطات الراديو العالمية على الاستفادة منه باعتباره التطور الرقمي الطبيعي لخدمة الراديو وليس المنافس الذي يهدد عرش الإذاعات في تقديم المحتوى الصوتي، وحصلت على حق بث عدد من ملفات البودكاست الناجحة عبر أثيرها، كما أن الكثير من رواد الأعمال والمشاهير والسياسيين عكفوا على تقديم سيرهم الذاتية عبر خدمات البودكاست وهو ما دفع بعض المحطات لشرائها أيضًا لاستقطاب فئات جديدة من المستمعين، ما حقق لهم أرباحًا كبير، ومن المحطات العربية التي كانت رائدة في تبني ذلك التوجه “راديو الآن” الذي بدأ في تقديم 18 برنامج بودكاست منذ عام 2019، بمحتوى متنوع يهم فصيل كبير من المستمعين بمختلف اهتماماتهم، ذلك بالإضافة إلى أن هناك اهتمام كبير حاليًا من شركات إنتاج المحتوى لتبني أو بناء مشاريع بودكاست جديدة، للاستفادة من رواجها في الأوساط الشبابية، وهو ما ينبئ بمستقبل واعد للبودكاست قريبًا.
الهدف من مثل تلك التجارب بالطبع هو ليس فقط زيادة عدد المستمعين، بل أيضًا استقطاب الإعلانات، حيث يمكن تضمين المحتوى الإعلاني في البودكاست بشكل سهل وسلس وسريع، يضمن الاستماع لها، أكثر من تخصيص فقرة إعلانية طويلة تجعل المستمع يغير المحطة ويستمع لأخرى.
اتجاه محطات الراديو إلى بث عدد من تجارب البودكاست أيضًا فرصة مهمة للبودكاست للوصول إلى مستمعي الراديو، حيث سيلاقي قبولًا لدى الكثيرين منه، خاصة إذا ما نجحت المحطات في معرفة البودكاست الأقرب لذائقة مستمعيها، فيتحول الأمر لتكامل بين الراديو التقليدي والراديو الأحدث رقميًا، بدلًا من المنافسة التي لن تكون في صالح الراديو طويلًا.