إيمان مندور
في 16 يوليو من العام 1931، بحي شبرا في القاهرة، ولد يوسف شعبان شمس، ابن لرجل يعمل بإحدى شركات الإعلان، وأم ربة منزل أنجبت خمسة أطفال، ثلاثة أولاد وبنتان. وقد نال “يوسف” قدرا كبيرا من التدليل، ولما لا فهو “الابن البكري” وصاحب الفرحة الأولى في العائلة.
كان الطفل شديد الاعتداد بنفسه ويشعر بالمسئولية تجاه عائلته، التحق بمدارس المحافظة على القرآن الكريم حتى سن 10 سنوات، وحفظ أجزاء من القرآن ساعدته على سلامة اللغة العربية، وبعدها انتقل لمدرسة الإسماعيلية بشبرا، إلى أن وصل إلى مرحلة التوجیهی بمدرسة التوفيقية، وهي مرحلة “التخبط” كما كان يقول، ففيها يتحول الطفل إلى مراحل الشباب الأولى، ويبدأ في التفكير بمستقبله، لذلك في السنة الأولى الثانوية كان يتخيل نفسه مذيعا، خاصة وأن الإذاعة وقتها كان لها رونقها في بدايتها، لكن مع انتهاء العام الأول انتهت معه أحلام الإذاعة ليجد أمنياته قد تحولت من مذيع لشاعر، وفي السنة الثالثة اهتم بموهبة جديدة غير السابقتين، ألا وهي “الرسم”، لذلك انضم لجمعية الرسم وكان ضمن أعضائها وقتها علي مهيب وأخيه، أصحاب أول أعمال كارتون مصرية فيما بعد.
لكن مع بداية السنة الرابعة قرأ إعلانا في لوحة المدرسة عن فريق للتمثيل يتم تكوينه حديثا، فتوجه للقاعة ليجد هناك صلاح سرحان شقيق الفنان شكري سرحان، ووجد القاعة مزدحمة بعدد كبير جدا من الشباب منهم علي لطفي وبليغ حمدي وأحمد حمدي وغيرهم. وفي هذه اللحظة بدأ صلاح سرحان في النداء على الأسماء لاختيارهم، وجاء اسم بليغ حمدي وانضم، ثم جاء اسم يوسف شعبان بعده مباشرة وكانت المسافة بينه وبين صلاح كبيرة، فضلا عن أن جسمه كان ضعيفا بعض الشيء، فهمس بليغ ليوسف قائلا: “شِب شوية.. شِب شوية”. وبالفعل رفع يوسف قدميه قليلا، لكن كان رد صلاح: “معلش السنة الجاية يكون لك حظ أفضل معانا”.
غادر يوسف القاعة لكن رغبته في الانضمام لفريق التمثيل لم تغادر نفسه، فنصحه بليغ حمدي أن يمارس الرياضة كي تتحسن لياقته البدنية وينضم في العالم التالي. وبالفعل انضم “يوسف” للفريق الرياضي بالمدرسة ولم يتوقف عن ممارسة الرياضة في هذه المرحلة، لينضم في السنة الخامسة لفريق التمثيل، ويشارك في مسرحية بعنوان “حنا المعمداني”، والتي حصدت الميدالية الذهبية في مسابقة للمدارس وقتها.
بعد مرحلة التوجيهى، قرر يوسف أن يلتحق بكلية عسكرية أو شرطة، ولم يفكر في دراسة وامتهان التمثيل إطلاقا، فقد كان كل ما يبحث عنه أن يجد وظيفة بعد التخرج مباشرة، وبالفعل تقدم لامتحان كلية الشرطة لكن لم ينجح في الاختبارات، فالتحق بكلية الحقوق في النهاية.
لكن بعد نحو شهرين من بدء الدراسة، قرأ ذات مرة إعلانا عن فريق مسرح الجامعة، فتوجه على الفور إلى مكان الفريق، وهناك قابل كرم مطاوع ونجيب سرور وفايز حلاوة وصلاح السقا وإبراهيم نافع وغيرهم الكثير. وشارك في مسرحية “هاملت” مع كرم مطاوع وزهرة العلا، ومن بعدها توطدت علاقته بهما، ونصحاه وقتها بالالتحاق بمعهد السينما بجانب دراسته بكلية الحقوق، فاستجاب لهما وتقدم بأوراقه للمعهد، وبدأ بالفعل مع بداية العام الثاني، فأصبح طالبا في السنة الثانية بكلية الحقوق وطالبا في السنة الأولى بمعهد السينما.
استمر التزامه في كلية الحقوق حتى السنة الثالثة، إلى أن قرأ في إحدى الجرائد اليومية اقتراحا بتعيين خريجي الحقوق كمُحضرين، فخاف من هذا المصير وتركها على الفور.. “في هذه اللحظة لم أتمالك نفسي ووجدت صورة شفيق نور الدين تراودني أينما دخلت الجامعة بالبالطو الأصفر والمنديل المحلاوي والعصا بيده، هذا بجانب أنني كنت أشعر أن عمل المحضر شيء مزعج نفسيا تماما، فكيف تطاوعني نفسي أن أذهب لأصحاب بیوت آمنين کي أوقع طرد أو أوقع حجز على بشر لم يضروني في شيء”.
الطريف في قصة يوسف شعبان مع المعهد، أن درجاته في مادة التمثيل بالذات كانت الأسوأ، لأنه كان على خلاف مع أساتذته، خصوصا في السنة الأولى والثانية، فقد كان حريصا على التميز وتصوّر أن الفن لا يخضع بالضرورة للنظريات وإنما للإحساس والموهبة، فاعترض على طريقة الإخراج في مسرحيتي “هاملت” و”مجنون ليلى”، مما استفز أساتذته فاعتبروه مغرورا.
لم يستقم حاله في المعهد إلا عندما أصبح في السنة الثالثة، حيث كان يدرسه الفنان محمود مرسي، الذي شجعه بدوره ومنحه نصائحه واهتمامه، فأسند له أول دور في حياته وكان سهرة تمثيلية من إخراجه بعنوان “الحب الكبير” مع ليلى طاهر وصلاح منصور، وعن طريق هذه التمثيلية بدأ المخرجون يتعرفون عليه، حتى جاءته الفرصة الحقيقية من خلال المخرج الكبير هنري بركات، الذي اختاره لدور الطالب الثوري في فيلم “في بيتنا رجل” مع عمر الشريف وحسن يوسف وزبيدة ثروت.
وكذلك فيلم “المعجزة” من أوائل مشاركاته السينمائية، فقد تم اختياره بعدما اعتذر الفنان رشدي أباظة عن القيام بدور “البلطجي” فأسنده إليه المخرج حسن الإمام، ووقتها همس في أذنه الفنان حسين رياض أثناء التصوير قائلا: “يا بني أنت ممثل كويس ليه هتعمل دور عباس؟”، اندهش يوسف لسؤاله، لكنه فهم المغزى فيما بعد، فقد التصقت به أدوار الشر بمجرد قبوله لهذا الدور، حتى إنه وقّع عقود 3 أدوار و”كلها شر” قبل أن يكمل تصوير الفيلم.
اختيار المخرجين ليوسف شعبان لتقديم دور الشرير ليس لموهبته فقط، بل لأنه المكان الوحيد الخالي وقتها، فعندما تخرج من معهد التمثيل كان يتربع على عرش التمثيل في ذلك الوقت كل من كمال الشناوي وشكري سرحان وفريد شوقي وأحمد مظهر وأحمد رمزي وحسن يوسف ورشدي أباظة وعماد حمدي، وكانوا جميعا لا يقبلون على أداء أدوار الشر، وبالتالي كان هذا هو الطريق الوحيد الذي تركوه له، وكان سعيدا في البداية، ولكن عندما طال انتظاره لأداء أدوار أخرى، كره نوعية هذه الأدوار.
يقول يوسف: “أحب أداء شخصية الشرير بعد اكتشافي مدى تأثر الجمهور بهذا النمط من الشخصيات لأنه يخاف منها ويبتعد عن سلوكها، أما الشخصية السوية الطيبة فالنتيجة دائما سلبية معها، بالإضافة إلى أن أدوار الشر تحتاج لممثل جيد يملك قدرات مختلفة عن أي ممثل آخر، أعترف أنه تم سجني في هذه الأدوار منذ عام 1963 إلى 1969، وتمردي على هذه الدائرة بدأ مع فيلم ميرامار إلى أن اتجهت للتليفزيون وعشت حالة خصام طويل مع السينما”.
كان صراع يوسف شعبان مع نفسه قويا ليقاوم إغراء العقود الكثيرة لأدوار الشر، لكن نجح في ذلك وابتعد عن السينما 3 سنوات متتالية، وخرج إلى دول الخليج يبحث عن أدوار أخرى، وبالفعل شارك في مسلسل “وضحه وابن عجلان” وكان دورا باللهجة البدوية، وتوالت عليه من بعدها العروض التليفزيونية التي تخرجه عن دائرة الفتى الشرير، فاستمر توقفه عن أدوار الشر نحو 5 سنوات متتالية، لكن عندما تمسك الفنان فريد شوقي بتقديمه لدور من أدوار الشر أمامه في فيلم “حكمت المحكمة”، استجاب لرغبته وعاد لها.
(4)
“أنا لست مثاليا.. بل قدمت تنازلات في بعض الأعمال والسبب بسيط: أنا لا يمكن أن أنتظر عملا جيدا من أسامة أنور عكاشة أو محسن زايد كل ثلاث أو خمس سنوات! ولكن هناك بعض الأعمال لا تحتمل التنازلات وإلا أصبح العمل فيها جريمة”
في النصف الثاني من الستينيات، اتجه يوسف لبيروت وقدم عددا من الأفلام التي اعتبرها الكثيرون رديئة فنيا، وأنها كانت بغرض الحصول على أموال فقط… “لم أكن وحدي الذي اتجهت الى بيروت في تلك الفترة، لأن مصر كانت تسير في طريق الشيوعية، والشركات السينمائية الكبرى كادت تتوقف عن الإنتاج، والخراب الذي حل بالسينما المصرية بدأ في تلك الفترة بالتحديد، لأن تأميم صناعة السينما هو الذي قادها للهلاك، وقتها أنا وزملائي کنا نبحث عن عمل بأي طريقة، وعندما عرض عليّ المخرج زهير بكير العمل معه سألته عن الذين يشاركونني العمل في الفيلم فقال لي فريد شوقي ونادية لطفي، اندهشت واتصلت بنادية وسألتها: هل صحيح تنوين العمل مع زهير بكير، فقالت لي: لو معاك 5 جنيه أرسلها لي. ففهمت أنها قبلت الدور من أجل أن تعيش، وهي مثل كثير من النجوم في تلك الفترة”.
لم تكن تجربة بيروت الوحيدة ليوسف شعبان خارج مصر، بل كان له تجربة تقديم أفلام تجارية أخرى في تركيا، حيث عمل مع الفنان فريد شوقي فيلمين هناك، وتعرف على المخرج التركي إسماعيل متین أکسان، حيث كان الفيلم يتم الانتهاء منه بالكامل خلال ۲۰ يوما، ويعرض فورا في دور العرض بعدها.
السينما أنقذت يوسف شعبان في الستينيات، بعدما ترك العمل على مسارح التليفزيون عقب المشادة التي وقعت بينه وبين الفنان السيد بدير، عندما ذهب إلى المسرح ووجد إعلانا يطلبون فيه ممثلين جددا بدون شرط المؤهل، فأصابته الغيرة على المسرح، ودخل إلى مكتب السيد بدير وقال له أنه يرفض أن يعمل في مهنة التمثيل “ناس من الشارع”، ومن الضروري أن يكونوا مؤهلين علميا ودارسين للفنون المسرحية، واشتد النقاش بينهما، فقدم يوسف استقالته على الفور، ليتفاجأ في اليوم التالي بصدور قرار بمنعه من العمل في الإذاعة والتليفزيون… “إن لم تفتح لي السينما بعد ذلك أبوابها لكنت مت جوعا، حدث هذا رغم أني قصدت الحفاظ على مستوى المسرح وتم وقفي لمدة 3 سنوات”.
كان يوسف شعبان أول من جرؤ وغامر بتقدم دور الشاذ جنسيا في السينما المصرية في فيلم “حمام الملاطيلي” عام 1973، صحيح إنه تردد في قبول الدور في البداية، لكنه شجعه لقبوله مدى تفتح الممثلين الأجانب وقبولهم لأي دور.. “قلت لنفسي إحنا برضه مش أقل من الناس دي.. كمان الدور عرض أولا على يوسف شاهين ورفض، فبعدها صلاح أبو سيف عرض عليّ الدور، ووقتها سألته سؤال واحد: أنت سمعت عني حاجة مش تمام؟ تعرف إني بتاع كده؟ فرد عليّ: أعرف أنك ممثل جامد وجريء، فوافقت على الفور”.
لم يندم يوسف على الدور، لكنه عانى كثيرا أثناء تأديته ومر بمعاناة نفسية صعبة، لدرجة أنه في كل مرة كان يذهب فيها للاستوديو كان يتمنى أن يقع أو يتهد الديكور ويتوقف الفيلم، لأنه توحد مع شخصية الشاذ، وبدأ يشعر بمعاناته وكأنه هو وليس شخصا بعيدا عنه. لكن رغم ذلك كان سعيدا للغاية بنجاح الدور وتذكر الجمهور له حتى بعد مرور سنوات طويلة… ” قامت الدنيا ولم تقعد وقتها، لأنني قدمت دور الشاب الشاذ، لكنني كنت مؤمنًا بالفيلم، وأرى أنه فيلم رائع، لأنه كشف عن مصر الضائعة المليئة بالشروخ، إذ حمل إسقاطات سياسية على تردي أوضاع مصر آنذاك”.
قدم يوسف شعبان العديد من الشخصيات الفنية، بدءا من سيد الدوغري في مسلسل “عيلة الدوغري”، وحافظ في مسلسل “الشهد والدموع” ورؤوف في فیلم “حمام الملاطیلی”، ودرويش في مسلسل “الوتد”، ووهبي السوالمي في مسلسل “الضوء الشارد”، وسمير سرحان البحیري في فيلم “ميرامار”.. وغيرهم الكثير. لكن يظل لشخصية محسن ممتاز في مسلسل “رأفت الهجان” الأثر الأكبر لدى الجمهور، بسبب إتقانه لأداء الدور وجودة المسلسل ككل.
شخصية محسن ممتاز الرجل المصري الوطني الذي ينسى نفسه وأسرته في سبيل أن يصنع لمصر حائط دفاع من خلال جهاز المخابرات، كانت شخصية حقيقية ألا وهي اللواء عبد المحسن فائق، الذي لم يقتصر دوره على صنع رأفت الهجان بل إنه أشرف على العديد من العمليات الأخرى. لذلك قبل تنفيذ الدور التقى يوسف شعبان بأقرب أصدقائه التي عبر عنها المسلسل بشخصية “عزيز الجبالي”، عندما دعاهم المخرج يحيى العلمي للعشاء معا، وتحدث معه كثيرا عن محسن ممتاز وحاول أن يستشف شخصيته من الكلام بعيدا عن المكتوب في السيناريو، خاصة وأنه يجسد شخصا حقيقيا له أبناء وأصدقاء أحياء يرون المسلسل، وسيحاولون الربط بين ما يقوم به وبين تصرفات الشخصية الحقيقية.
لذلك كان أكثر ما أسعد يوسف شعبان وقتها، ليس فقط نجاح العمل وإشادات الجمهور، لكن استقباله لمكالمة هاتفية من أبناء محسن ممتاز يشكرونه فيها ويقولون إنهم كانوا يرون أباهم في المسلسل.
بعد انتهاء المشاهد المهمة ليوسف شعبان في مسلسله الرمضاني المقبل “عش الدبابير”، مع مصطفى شعبان وعمرو سعد، أصيب بفيروس كورونا المستجد، ليدخل على إثره للعناية المركزة، ثم تتدهور حالته الصحية سريعا حتى رحل عن عالمنا اليوم، تاركا خلفة مسيرة فنية ممتدة لأكثر من 60 عاما، لم يكن فيها نجم شباك أو البطل الأوحد الذي تدور حوله الأحداث وينتظره الجمهور، رغم توافر مواصفات النجم فيه، لكن كتبت له الأقدار أن تكون نجوميته في اسمه في حد ذاته لا في دور بعينه، فيكفيه أن يكون يوسف شعبان.. وحسب.