إسلام وهبان
هناك نوع من الكتابة يفتح في ثنايا قلبك نوافذ على العالم، ويجعلك ترى الحياة بصورة أكثر اتساعا وعمقا، وهو ما استطاع أن يقدمه الكاتب عمر طاهر، ببراعة فائقة من خلال أعماله على اختلافها، وخاصة في مجموعته القصصية “بعد ما يناموا العيال”، والصادرة حديثا عن دار الكرمة للنشر والتوزيع.
أعاد عمر طاهر من خلال مجموعته التي تضم 19 قصة، رسم لوحة غاية في الدفئ والجمال، لمشاهد تبدو “عادية” من حياتنا اليومية، وذلك من خلال التركيز على المشاعر الإنسانية البسيطة التي يكتنفها كل مشهد، ليعطي المجال للقارئ لتأملها والوقوف أمامها، والتفكير في طبيعة البيوت المصرية والتحولات التي حدثت بالمجتمع.
عمارة عمر طاهر
يجمع عمر طاهر أبطال قصصه الـ 19، في عمارة تشبه الكثير من عمارات مصر، لكنها مليئة بالدفئ والونس والمحبة. سكان لا تعرفهم على وجه التحديد، لكنك بالتأكيد مروا بحياتك في يوم من الأيام، أو قد تكون أنت واحدا منهم، فلن تجد في أي قصة زمانا ولا مكانا بعينه، ولكنك سترى تفاصيلا لأول مرة رغم اعتياديتها وبساطتها.. ضحكة من القلب.. عشوة هنية في ليلة شتوية.. كوب شاي على مقهى بلدي وفي الخلفية صوت لأم كلثوم… تفاصيل عديدة يلتقطها عمر طاهر بعدسته الدقيقة لينقلها مباشرة إلى قلب القارئ.
فن اختيار العنوان
رغم إثارة عنوان المجموعة القصصية حفيظة البعض، إلا أنني أراه اختيار ذكي ومعبر للغاية، فالعنوان مأخوذ من أحد عناوين قصص المجموعة، والتي تحكي عن لحظات السعادة والراحة والطمأنينة بين زوجين بعد يوم عمل شاق، وقدرتهما على خلق ساعات بسيطة من السعادة تعيد شحن طاقتيهما لليوم التالي وطلبات العيال، ولا تحمل القصة أو المجموعة بأسرها أية عبارات جنسية أو تلميحات فجة، لكن العنوان يعكس لحظات المودة والدفئ وحكايات السمر التي تملأ البيوت “بعد ما يناموا العيال”.
عودة القارئ للقصص القصيرة
يعاني الوسط الأدبي منذ فترة طويلة من عزوف القراء عن الأعمال القصصية، ويرى البعض أن ابتعاد القارئ عن هذا اللون الأدبي، يعود إلى شدة التكثيف والرمزية التي يصعب فهم القارئ العادي وأحيانا المتخصص أيضا، لكن استطاع عمر طاهر في “بعد ما يناموا العيال”، والتي نفذ منها 4 طبعات في الشهر الأول لصدورها، أن يحقق المعادلة، بتقديم عمل قصصي سلس دون أن يخل بأركان القصة القصيرة، من خلال لغة بسيطة تبتعد عن التراكيب اللغوية المعقدة أو العبارات شديدة الرمزية والتعقيد، لكنها مليئة بالتفاصيل والمشاعر.
روشتة السعادة
في وقت زادت فيه نسب الكتابة عن المعاناة والحديث عن المشاكل المجتمعية، يبرز عمر طاهر من خلال مجموعته برشاقة أسلوبه، وخفة تعبيراته، مشاهد السعادة التي نعيشها ولو لدقائق معدودة، ويحولها إلى عالم كبير، مليء بالحب والبساطة والخفة والابتسامة الصافية، وكأنه يقدم روشتة خاصة لقرائه لاختلاس لحظات السعادة وسط كل ما نعانيه، فالقصص لا تقدم حالة من الترف، لكنها تسلط الضوء على لحظات البهجة التي نسترقها من بين الألم والمعاناة.
فتاة تشعر بالوحدة في الثمانينيات
رغم تناول القصص لمشاهد وتفاصيل بسيطة، إلا أن مجموعة عمر طاهر قد حوت على العديد من الأفكار المدهشة والتي تمنيت لو تحولت لرواية فيما بعد، لما فيها من ابتكارية فكرة القصة وطرحها لتساؤلات عدة، والتي من بينها قصة “فتاة تشعر بالوحدة في الثمانينيات” التي وقعت في فجوة زمنية لتتصل بشاب يعيش في الألفية الثانية عبر “عدة تليفون” قديم، لتملأ حياته أنسًا ومرحًا، ولتشعر أنت بحالة من النوستالجيا، التي يبدع عمر طاهر في إيصالها.
عمل فني بامتياز
القصص الإنسانية التي تضمها “بعد ما يناموا العيال”، والتفاصيل اليومية المتنوعة، والموضوعات التي تتناولها القصص والتي تهم أي بيت مصري، أعتقد أنها صالحة لتتحول إلى عمل درامي بامتياز، لما يتميز به عمر طاهر من عشق للتفاصيل وقدرة على خلق صورة مشهدية للقصص التي يرويها، والاهتمام بالجانب الدرامي لها، خاصة بعد نجاح العديد من الأعمال الدرامية التي تقدم قصص منفصلة متصلة، تجمع بينهم البساطة ودفي البيوت المصرية.