طاهر عبد الرحمن
معارك كثيرة، سياسية وأدبية واجتماعية بل وحتى دينية، خاضها الكاتب والأديب الأشهر يوسف إدريس، من منتصف الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات.
ويتفق الكثيرون أن معظم تلك المعارك، بغض النظر عن أهميتها وخطورتها، استنزفت الأديب الكبير، وكانت في غالبيتها على حساب إبداعه، وأنه لو خصص الوقت الذي سرفه في تلك المعارك للأدب لاختلف الأمر كثيرا، وعلى كلٍ فإن ما كان كان، وبقيت معارك المبدع الراحل دليل وشهادة وسمة على شخصيته وأسلوبه في الحياة.
وبالطبع فإن ليوسف إدريس معارك مشهورة جدا، وأخرى غير معروفة، وهذه واحدة منها.
البداية حديث صحفي
في عدد يوم 13 ديسمبر 1978 من جريدة الأهرام، وفي صفحة دنيا الثقافة، أجرت الصحفية عايدة رزق حوارا مع يوسف إدريس كان عنوانه: أزمة الفكر والمفكرين، تحدث فيه عن رؤيته ورأيه للمشهد الثقافي العام في لحظتها، وقد أرجع سبب الأزمة إلى “غياب النقد والنقاد عن الحياة الثقافية، فالجمهور ليس ناقدا بل مستهلك، وبالتالي فإن أهمية وجود النقاد كبيرة جدا، لأنه حلقة الوصل بين المفكر والجمهور.
وردا على سؤال عن شباب المبدعين وموقفه منهم، قال إن الشباب ليس لديهم الطموح الكافي للإبداع، فالهدف ليس مجرد نشر رواية أو قصة بقدر ما يرتبط برؤية أوسع وأشمل للحياة والفن، واعتبر إدريس أن جيله هو “آخر النماذج الهائلة للطموحات”.
فاروق جويدة يعلق
في عدد اليوم التالي، عدد يوم 14، كتب الشاعر والصحفي – الشاب وقتها – فاروق جويدة ردا على ما قاله إدريس في حواره، بعنوان: الأجيال التي لم تأت بعد كيف نحكم عليها، حيث قال إنه من الممكن لأي جيل أن يقيم – ويحاكم – نفسه أو الأجيال التي سبقته، ولكن ليس من حقه أن يحكم على جيل لم يأت بعد، فقبل الحكم على الأجيال الشابة يجب أن نسأل أنفسنا ماذا قرأنا لهم.
وفي رأي جويدة أن السبب الرئيسي في الفجوة الهائلة بين الأجيال في مصر هو “التطرف الفكري” من كل شيء، سواء رفضا أو قبولا، و”التطرف هو أسوأ شيء ورثناه من الأجيال السابقة”.
وأرجع سبب أزمة النقد إلى أنه أصبح تابعا للأيدلوجيات السياسية لكل كاتب أو أديب، مع أن العكس هو المفروض أن يحدث، لأن السياسة يجب أن تكون رافدا من روافد الفكر.
وشبه فاروق جويدة موقف يوسف إدريس بموقف طه حسين من الأجيال الشابة في الستينيات حيث اتهمها بأنها “تكتب أكثر مما تقرأ”، معتبرا أن “الزميل أطلق أحكاما مطلقة، ونحن لا نريد أن نعيش بقية عمرنا في ظل أحكام وآراء مطلقة”.
يوسف إدريس يرد
بسبب طبيعته المتحفزة وأعصابه المشدودة طول الوقت، فإن يوسف إدريس لم يكن ليتجاهل ما كتبه فاروق جويدة في تعليقه على حواره، وهكذا في عدد يوم 18 ديسمبر من الأهرام، كتب إدريس ردا قصيرا على التعليق بعنوان: رجاء، طلب فيه من “الأصدقاء والزملاء الذين علقوا على الحوار أن يقرأوه كاملا وألا يقتطعوا من سياقه جملة أو فقرة ليجعلوا منها صلب القضية، لأنه الهدف الأساسي من الحوار كان الحديث عن أزمة الفكر بصفة عامة”.
وأما بالنسبة لموقفه مع المبدعين الشباب فإن تاريخه بالوقوف معهم شاهد وموثق، ليس فقط بالكتابة عنهم، بل بإتاحة فرص النشر لهم – وقت أن كان مشرفا على أقسام الأدب في الصحف والمجلات التي عمل فيها، في الخمسينيات والستينيات.
واعتبر إدريس أن الموضوع كله “موضوع سقيم ولعب أطفال، فالهدف من الحوار هو المناخ الثقافي والأدبي والديمقراطي الذي يقتل إبداع المخضرمين والجدد على حد السواء”.
رد جويدة على الرد
لم ينجح رد يوسف إدريس في امتصاص غضب شباب المبدعين، ولذلك كتب فاروق جويدة ردا عليه، في عدد يوم 20 ديسمبر في جريدة الأهرام، تحت عنوان: شهداء بلا معارك، قال فيه إن نفي إدريس لموضوع صراع الأجيال لا يعني عدم وجوده، واعتبر – مرة أخرى – أن سبب أزمة النقد والمناخ الثقافي هو أن معارك المثقفين والأدباء تحولت إلى معارك سياسية تلقى فيها الاتهامات وتوزع فيها النياشين.
بل إن الأخطر – في رأيه – أن المناخ الثقافي أخذ من السياسة شتائمها وانفعالاتها بدلا من وقار الفكر وقدسيته، واعتبر جويدة أن “مسألة المناخ في حد ذاتها أصبحت شماعة وحجة سقيمة يلقي عليها المفكرون والكتاب تكاسلهم وسلبياتهم، فعلى الرغم من المناخ السلبي في زمن ما قبل الثورة إلا أنه ظهرت مواهب جبارة”.
هجوم آخر
بالطبع أثار ما قاله إدريس في حواره الكثيرين، كان من بينهم د. سمير سرحان، الكاتب المسرحي المعروف، والذي كتب في عدد يوم 17 ديسمبر في الأهرام تحت عنوان: لم يكن جيلكم آخر العباقرة، قال فيه إن جيل يوسف إدريس تخلى عن مهمته الكبرى في أن يكون جسرا بين القديم والجديد، ولم يفعل كما فعل جيل طه حسين وتوفيق الحكيم معه، حيث مهد له الأرضية اللازمة ليثبت نفسه.
وفي رأيه أن ذلك التقاعس سببه “شخصي وغريب لأنه – أي يوسف إدريس وجيله – يريد أن يكون آخر العباقرة”.
ضربة قاضية
في عدد يوم 4 يناير 1979 نشرت صفحة دنيا الثقافة بجريدة الأهرام شهادة من روائي شاب، اسمه سعيد سالم، قال فيها أنه أهدى روايته “بوابة مورو” إلى الكاتب الكبير يوسف إدريس، لكنه لم يتلق منه أي رد، سواء بالسلب أو الإيجاب على روايته، في حين أن كاتبا كبيرا آخر – هو نجيب محفوظ – كتب له مشجعا وقال أنه قرأ روايته وأعجب بها”.
وبالتأكيد فإن تلك الشهادة أضعفت موقف يوسف إدريس تماما!