اعشق التاريخ منذ طفولتي سواء كعلم وحواديت أو حتى كمادة دراسية، وكنت دائماً من المتفوقين فيه، ورغم أن الشائع لدى معظم طلبة المدارس أن التاريخ مادة حفظ وصم إلا أننى لم اكن يوماً اراه من هذا المنظور بل كنت أراه سلسلة متكاملة من الأحداث يؤدي بعضها إلى بعض، والربط بينها والمقارنات السريعة كانت من أكتر المتع التي اجدها عند التعمق فيه.
وجرى العرف في مناهج التعليم المصرية على تقسيم التاريخ إلى ثلاثة مراحل كبرى وهى الفرعونية، والإسلامية والحديثة، وكنت اعشقهم جميعاَ الفرعونية بغموضها وسحرها، والإسلامية بعظمتها وقوتها، والحديثة بقسوتها وواقعيتها.
واذكر انني وصلت إلى قمة نبوغى التاريخي عندما كنت في الإعدادية، ووقتها كان منهج التاريخ يدرس لأول مرة، وكنت استمتع بإلتهام الكتاب والخروج بملاحظات، وتفاصيل، لدرجة أنه عندما زار الفصل مفتش الوزارة، وكان يبدو رجلاً متمكناً من معلوماته التاريخية، وأراد أن يسأل الطلبة أسئلة فى منتهى الدقة والصعوبة وربما التعجيز.
فسأل في البداية عن أول احتكاك مباشر بين أوروبا ومصر فى العصر الحديث، والشائع أن تكون الإجابة هى الحملة الفرنسية، لكني فاجأته بأنه قبل حملة “بونابرت” كانت هناك زيارة “نيلسون” أمير البحر الانجليزى لمدينة الأسكندرية لتهديد حاكمها “محمد كريم” ومنعه من التعامل مع الفرنسيين الذين كانوا فى الطريق إلى المدينة.
ثم طرح السؤال الأكثر خبثاً، وهو عندما طلب الدليل على أن العلاقة بين فرنسا و”محمد على” لم تكن دائماً رائعة رغم كل التعاون بينهما لدرجة أن معظم بعثات المصريين كانت صوب فرنسا، وكان ردى أسرع من سؤاله عندما بادرته بأن فرنسا خانت “محمد على” عندما شاركت بريطانيا وروسيا فى ضرب الأسطول المصرى فى معركة “نافارين” فى حرب المورة ضد ثوار اليونان.
وعندما أراد تعجيزى سأل عن رجل أوروبا المريض فى القرن العشرين وهى معلومة لم يكن لها أي ذكر فى مناهج الوزارة وكنت اعرفها من اطلاعاتى الخارجية، وانهيت تحدياته بأن ذكرت أنها الإمبراطورية العثمانية فى اواخر عهدها.
وظل غرامي بالتاريخ ودراسته حتى بعد انتهاء مرحلة الدراسة من خلال القراءة الحرة، لكن مؤخراً ولأول مرة في حياتي وبعد تزوير حقائق ووقائع عاصرتها وعشتها بنفسى، اعدت النظر في التاريخ ككل، وقررت ألا اتعامل مع التاريخ بمنطق الحقائق، ولكن اتعامل معه بمنطق الحكايات القابلة للتصديق أو غير المعقولة، لأننى أدركت أن التاريخ يصاغ من وجهة نظر من يكتبونه، وفى الغالب هم المنتصرون وربما الهواة، والمرتزقة.
وحتى المعتدلون فلا توجد لديهم اسطورة الحياد المطلق، ولذلك اقتنعت بأن التاريخ هو مادة ممكن أن نقرأها لنتعظ ونعتبرمنها، ولكن لا نثق دائماً فى روايتها، اللهم إلا الحقائق العامة مثل السير العامة للأشخاص وأخبار الحروب والدول وغيرها.
لكن من امتع ما اسمعه من حكايات التاريخ خصوصاً التاريخ المعاصر والحديث هو ما يمكن أن نسميه السرد الشعبي للتاريخ أو روايات العامة عن التاريخ تلك الروايات التي تمزج بين الواقع، والأساطير ومحاطة بغلاف من النكتة والسخرية.
ربما يكون لتلك القصص اصول تاريخية ولكن يظل الطريف فيها هو طريقة صياغتها أو شخصية من يقصها عليك، وبمناسبة ثورة يوليو فمن الشائع تاريخياً أن الخطأ الذي حدث في تقدير أو تبليغ الضابط “يوسف صديق” بساعة الصفر وتحركه في الثانية عشرة بدلاً من الواحدة صباحاً احبط محاولة رجال الملك في الجيش اجهاض الثورة بعد تسرب امرها.
ومن المتداول أن هذا الخطأ يعد أهم أسباب نجاح الثورة لأن “يوسف صديق” بتحركه المبكر انقذ “جمال عبد الناصر” من القبض عليه وبعدها تحركت ثورة يوليو في المسار الذي يعرفه الجميع، وحتى الآن تبدو الرواية تاريخية رصينة ويجمع عليها بعض المؤرخين.
اما الحدوته الشعبية العجيبة سمعتها من أحد زملائي الحشاشين الكبار حينما ذكر لي تلك الواقعة مصحوبة بأغرب تفسير حينما أكد لي أن “يوسف صديق” لم يغير ميعاد ساعة الصفر، ولكنه تناول سيجارة حشيش فرأى الساعة على عقارب الواحدة صباحاً، وتحرك مقتنعاً أنه على صواب من تأثير الحشيش !!
وبغض النظر عن طرافة وخزغبلية الرواية ولا معقوليتها إلا أنني أجد نفسي في أكتر من عيد لثورة يوليو اتذكرها واتخيلها كما لو كانت فعلاً حقيقة !
وافترض أن “يوسف صديق” لم يدخن سيجارة الحشيش ! وذهب في ساعة الصفر الأصلية، ولم يذهب مبكرأ وتم القبض على “عبد الناصر” ورفاقه، وفشلت الثورة واستمر الملك “فاروق” واجبره الشعب على الإصلاحات الدستورية وتحول إلى ملك مراسم مثل معظم ملوك أوروبا وتحولت مصرإلى دولة ملكية ديموقراطية !!