لم تحظَ شخصية وطنية عربية باختراقها سائرَ الشخصيات العربية وبالتأثير عليها -ثقافيا واجتماعيا بصفة خاصة- مثلما حظيت الشخصية المصرية منذ بدايات القرن الماضي تحديدا وبصورة متصاعدة على مدى ذلك القرن لتبلغ ذروتها بُعيد منتصفه مع فَورة القومية العربية.
وإذا كانت الأسباب وراء تصاعد التأثير المصري عربيا -منتصف القرن الماضي وعلى مدى عقد ونصف تقريبا- سياسية ابتداءً، فإن ذلك التأثير الطاغي لم ينقطع بخفوت جذوة القومية العربية التي كانت تنطلق من مصر وإنما استمر ثقافيا -ومن ثم اجتماعيا- وبقوّة لأن مصر كانت تمرِّر خلال تأثيرها السياسي الطاغي حينها مضامين ثقافية لا تقلّ سطوة، بل إن الفيضان الثقافي المصري كان يغمر الحياة العربية بقوة قبل الفورة القومية بعقود مستفيدا أيضا من مكانة مصر السياسية المتميزة حينها، واستمرّ بعدها بتأثير تلك المكانة التي كانت مقاطعةُ العرب لمصر -خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات الماضية- تأكيدا لها على أكثر من صعيد وليست خصما عليها في كل مجال.
التأثير الثقافي والاجتماعي لمصر عربيا كان ولا يزال يحدث تارةً عَنوةً وتارةً عن طيب خاطر، بل عَنوةً وعن طيب خاطر في الوقت نفسه على نحو متوازٍ. أمّا “عنوةً”، فهي كِناية عن الإلحاح المصري في الدفع بالمؤثِّرات الثقافية -والاجتماعية في غضونها- عن سبق إصرار وترصُّد، سواءٌ باستغلال العلاقات السياسية الجيدة والنافذة مع العرب أو برغم تلك العلاقات عندما يعتريها الفتور أو الاضطراب لفترات زمنية تقصر أو تطول. وأمّا “طيب الخاطر”، فالمقصود به ما ينسرب إلى نفوس العرب من القبول التلقائي للمنجَز الثقافي المصري تقديراً لتميّزه دون الحاجة إلى أن تقف وراءه قوى دفع سياسية من أي قبيل.
وإذا كان غريبا سلوكُ الشخصية المصرية في إصرارها على الدفع بمؤثراتها الثقافية إلى سائر الشخصيات العربية في غضون علاقات فاترة أو مضطربة معها، فإن الأغرب هو سلوك الشخصيات الوطنية العربية في قبول تلقِّي (إن لم يكن التلذّذ بـ تلك المؤثرات والحال كتلك)، وهذا ما يجعل القطع بكَوْن ذلك القبول يتم عنوةً أو عن طيب خاطر مسألةً لا تخلو من الالتباس كل مرة.
البحث في تقلّب العرب إزاء تقبّل التأثير المصري حديث ذو شجون عرضنا لبعضه في أكثر من مقام مستقل، وسيقتضينا المقامُ على الأرجح أن نعرض له مراراً في سياق قراءة الشخصية المصرية بتفصيل. ولكن ماذا تحديداً عن موقع الشخصية المصرية من سائر الشخصيات العربية من حيث تبادل التأثير – مهما تكن طبيعته – وما يستتبعه من تداعيات مصطلح “الشخصية الوطنية العامة” الذي يظهر في عنوان هذا المقال؟
المقصود بالشخصية الوطنية العامة لا يتجاوز المراد بالشخصية العامة على المستويات الفردية في أي مجتمع، فالشخصية العامة في المجتمع تحظى بمتابعة الناس لها استناداً إلى إنجاز وظهور فريدين في أي مجال، وقياساً على ذلك فإن الشخصية الوطنية العامة هي شخصية وطنية تحظى بالمتابعة من قِبل الشخصيات الوطنية في محيطها لإنجاز وظهور فريدين، وعلى النطاق القومي العربي فإن الوصف الأخير لا ينطبق على شخصية وطنية مثلما ينطبق على الشخصية المصرية تحديداً.
ثمة العديد من الشخصيات العربية التي تنطبق عليها سمات الشخصية الوطنية العامة من حيث التأثير في الشخصية القومية العربية العامة، وستبرز الشخصية اللبنانية مثلاً بوصفها مستحقة للقب “شخصية وطنية عامة” رجوعاً إلى تأثيرها الإعلامي والثقافي على أكثر من صعيد وما يتبع ذلك من تداعيات التأثيرات الاجتماعية المتعددة. هذا على سبيل المثال، فالقائمة تشمل شخصيات وطنية عربية أكثر بدرجات متفاوتة، ولعله يمكن القول بأن معظم الشخصيات الوطنية العربية تمتلك سمة الشخصية الوطنية العامة من حيث التأثير في مجال بعينه أو أكثر، ولكن على إطلاق التأثير في الحياة العربية تبقى الأسماء معدودة بحيث تظل الشخصية الوطنية المصرية متربعة على القائمة بوضوح، وذلك بعيداً عن الحكم على طبيعة التأثير من حيث القبول أو الرفض رجوعاً إلى استجابة الشخصية القومية العربية بصفة عامة لكل حالة على حدة، وبتباين واضح بين الشخصيات الوطنية العربية أحياناً إزاء الحالة نفسها.
وكما أنه ليس بالضرورة أن تكون كل شخصية متميزة صاحبة إنجاز جدير بالتقدير في المجتمع شخصيةً عامة، فإن الأمر مشابه على نطاق الشخصيات الوطنية، فعلى الصعيد العربي مثلاً ثمة الكثير من الشخصيات الوطنية التي يحق لها أن تفخر بالإنجاز الأصيل والفريد على أكثر من صعيد ولكنها لا ترقى من حيث التأثير والظهور (نسبياً وليس بالقياس الحرفي بطبيعة الحال مع المقصود بالشخصية العامة في المجتمع) إلى مرتبة الشخصية الوطنية العامة إجمالاً.
ومثلما سيكون من دواعي الغبطة والفخر للشخصية الوطنية العامة أن تحظى بتلك المنزلة من الإقرار بالتأثير والظهور، فإنه لا مناص للشخصية الوطنية العامة والحال كتلك من تقبّل تبعات النجومية متمثلّة في تقصِّي دقائق سِماتها بالنقد والتحليل، ولعل هذا هو ما يجعل الشخصية المصرية الأكثر عرضة لمباضع تشريح الدوافع والاستجابات العربية، ليس من جانب جرّاحي الدراسات الاجتماعية والنفسية المهرة فحسب وإنما من قِبل أي مواطن عربي خالط أو شاهد أو قرأ عن الشخصية المصرية في أي صعيد وعلى أي مستوى واضح الظهور والتأثير.
للتواصل مع الكاتب (من هنـــــا)