في “العرب ظاهرة صوتية”، عن منشورات الجمل بكولونيا – ألمانيا سنة 2002، الطبعة الثانية سنة 2006، يقول عبد الله القصيمي: “العرب دائما أو غالبا يذكرون الأذن أو حاسة السمع أول الأوصاف الحميدة المطلوبة حينما يصفون أحدا من البشر أو من الكائنات الأخرى. وكذلك أيضا يذكرونها أول الأوصاف المسلوبة أو المفقودة التي يجب أو ينبغي أن توجد حينما يتحدثون بأسى أو بشماتة أو بتهديد أو بغضب واستنكار عن فقدها… إنهم مثلا يقولون: هذا يسمع ويرى، أو يسمع ويفهم، أو يسمع ويطيع ويعرف، حينما يريدون أن يمدحوا أو يطمئنوا أو يثقوا. أما حين يريدون الذم أو التعبير عن الخيبة والتخوف وفقدان الأمل أو الثقة فإنهم يقولون: هذا لا يسمع ولا يرى ولا يفهم ولا يعرف ولا يطيع ولا يستطيع. إنهم دائما أو غالبا لا يذكرون أية حاسة أو صفة قبل الأذن أو قبل الوصف بالسمع لا حينما ينفون ولا حينما يثبتون حتى ولا الوصف بالعقل أو العلم أو بالحكمة أو الخبرة. أي أن الأذن هي البدء حتى حينما يكون العقل والعلم والحكمة والخبرة موجودة وحاضرة… وإذا حدث غير ذلك فكأنه الخطأ والخروج على القانون”.
لن يكون الاقتطاف السابق وما سيليه على سبيل محاكمة آراء القصيمي في الكتاب أو بصفة عامة، وإنما مرورا عابرا على ما يريده بالظاهرة الصوتية لدى العرب، أو بالأحرى الظاهرة الصوتية التي اختصر فيها العرب. هذا، وبرغم جرأة آراء الرجل إجمالا، وبعيدا عن موقف القارىء منها أيّا يكن، فإنها تتسم بحدّة وانفعال واضحين يخلعان أثرهما على أحكامه وطريقة عرضها في أكثر من سياق، وذلك مجددا بمنأى من الموقف إزاء تلك الآراء والأحكام قبولا أو رفضا.
في المقتطف السابق، على سبيل المثال، لا حاجة إلى إنكار انصراف العرب إلى إيلاء أهمية واضحة للأذن، ولكن مع ملاحظتين: الأولى أن أهمية الأذن وأولوية حاسة السمع مسألة طبيعية ومنطقية بالنسبة للإنسان في أي مكان لا للعرب وحدهم، وهي أهمية وأولوية تقتضيها طبيعة الحياة ووظائف الحواس والمدرِكات ابتداءً، فليس للسمع فضل على العقل إلا من باب أن الأذن هي أحد أهم مداخل المعلومات إلى العقل ليتسنى للأخير امتلاكها وتحليلها وتكوين المواقف إزائها.
ومن ثم كان السمع مقدّما على الوعي من حيث تراتبية/أوّليّة التلقّي وليس الأهمية المطلقة بطبيعة الحال، إنْ لدى العرب أو عند غيرهم من المجتمعات، فلا وعي بدون أداة استقبال لما يفترض أن يتم استيعابه، والأذن هي أداة استقبال المعلومات الأشهر لدى الإنسان بصفة عامة، ولدى المجتمعات الأقل حظا في التطوّر والتي تعتمد على المشافهة أكثر من اعتمادها على وسائل المعرفة البصرية التي تتطلب -من أجل سيطرتها في أي مجتمع على حساب وسائل المعرفة الشفهية- قدرا أعمق من التغلغل الحضاري للمجتمع على كافة الأصعدة.
لكن القصيمي على كل حال يذهب أبعد مما ورد في الاقتطاف السابق في شأن ظاهرة العرب الصوتية، ليس بما يجانب الصواب بالضرورة في كل الأحوال ولكن بما تسيطر عليه نبرة انفعال حادة باستمرار، ففي موضع لاحق من الكتاب يقول: “ماذا يعنى بتفسير العرب بأنهم ظاهرة صوتية؟ لا يعنى بذلك أنهم أكثر أو أعلى أو أقوى أو أشهر أو أجمل أو أشجع أو أنفذ من كل المصوتين أو من كل المتكلمين أصواتا… إن أصواتهم لا تخترق أو تقتحم الآذان أو الضمائر أو العقول أو النفوس أو الصمت والسكون والهدوء أو الآفاق والأبعاد أو قلوب الأعداء والمنافسين والخامدين أكثر من أصوات الكائنات الناعبة أو الناعقة أو الثاغية أو الراغية أو النابحة…”، ثم يكمل بعد عدة فقرات: “وأيضا لا يعني بتفسير العرب بالظاهرة الصوتية أنهم يصوتون باختيارهم وتدبيرهم وذكائهم، أي يصوتون بالتخطيط دعاية أو خداعا أو تضليلا أو تغطية أو تخويفا أو مجاملة أو غناء أو فنا أو مرحا أو تجملا أو مشاركة أو تنفيسا، أي متى شاؤوا وفكروا ودبروا ورأوا ذلك أي أحيانا، كما يتكلمون ويفكرون أيضا أحيانا أخرى”. وما بين الفقرتين، وقبل ذلك ومن بعده، من حدة الأفكار وعنف التناول الكثير على طريقة عبد الله القصيمي الذي ينتقل في فصل لاحق ليصب كؤوس غضبه على اللغة العربية مجملةً.
فتحت عنوان “هل اللغة منطق” يقول القصيمي: “سأعني بما سوف أكتبه في الصفحات التالية اللغة العربية وحدها… ولست أريد أن أنفي أو أثبت هنا شيئا عن اللغات الأخرى مما نفيت عن اللغة العربية أو أثبت لها. إني محروم من كل العلاقات باللغات الأخرى. وأنا لا أجيد القتال أو الخصومة ولا أقسو فيهما إلا حينما أقاتل وأخاصم نفسي”. هذا تحفظ ممتاز، وإن يكن الحديث عمّا يميّز لغة ما -إيجاباً أو سلباً من وجهة نظر الباحث- يقتضي المقارنة بغيرها من اللغات، أو بلغة واحدة على الأقل، ومع ذلك لا تسلم المقارنات -خصوصا في غير السياق الأكاديمي- من الانطباعات التي تفضي إلى العديد من المزالق إذا لم ينتبه إليها الباحث بمزيد من الحذر في القراءة والسيطرة بالتقييد الدقيق قبل إطلاق الأحكام.
في سياق غضبه العارم، الذي ينتهي بأشد من مجرد نفي المنطق عن اللغة، اللغة العربية تحديدا كما يشير، يقول القصيمي: “اللغة لم توضع وإنما جاءت بلا أي منطق أو تخطيط كما جاءت وتجيء الطبيعة، كما جاءت الجبال والسهول والصحارى والبحار والصخور، وكما جاءت وتجيء ذات الإنسان وأحزانه ومسراته وأحقاده وأهواؤه وشهواته وأساليب تلاقحه وتناسله، وكما جاءت وتجيء أصوات وتغريدات وأغاني ونقيق الحيوانات والطيور والحشرات”. ومجددا فإن ما وراء هذه الكلمات وما بعدها أشد حدة شكلاً ومضمونا.
في ضوء المقدمات الطويلة السابقة في صحبة القصيمي وكتابه، وبمراقبة المسألة بصفة عامة، فإن ما نود طرحه هنا ليس السؤال: هل يغلب الجانب الصوتي على حياة العرب بالفعل؟ قدرَ ما هو سؤال آخر عن البحث في “ظاهرة” -إذا صحّ أنها كذلك- العرب الصوتية، هل كانت تلك “الظاهرة” باستمرار مسألة سلبية أم أنها لم تخل من جوانب إيجابية بصورة موازية؟ الأرجح أنه لن تكون ثمة إجابة قاطعة، قدرَ ما ستحتمل أية إجابة الجدل بدرجة أو أخرى. فإذا قلنا على سبيل المثال إن الشعر العربي الغنائي كان أبرز تجليات “ظاهرة” العرب الصوتية، فإن ردة فعل المتلقي على ذلك ستكون بحسب موقفه من الشعر الغنائي العربي على مدى تاريخه، والمتلقي بصفة عامة إما منحاز بشدة إلى ذلك التاريخ من الإبداع الشعري وإما يقف ضدّه بوضوح انحيازا إلى مظاهر التجديد الحداثي على اختلافها، وقلّما نقع على مواقف واضحة وجريئة خارج هذين الموقفين المتعارضين.
الأكثر أهمية تحديدا في مقامنا هذا هو النظر إلى مصر على وجه الخصوص، أين موقعها من “الظاهرة” الصوتية العربية؟ الأرجح -وبعيدا عما يريده القصيمي تفصيلا أو حتى إجمالا في كتابه- أن مصر في مقدمة المشهد الصوتي (وأرجو أن تجوز مفارقة التعبير) العربي، ولكن كالعادة بخصوصية مصرية فريدة.
المثل الشهير “خدوهم بالصوت ليغلبوكم” يتم تداوله في مصر على سبيل الاستهجان أكثر مما يُتداول كنصيحة كما يرِد في صيغة المثل المباشرة. فإذا علا صوت أحدهم مع حجة واهية يبادره خصمه بعبارة من قبيل: “هوّ إيه يعني، خدوهم بالصوت ليغلبوكم!”. غير أنه عميقا في المجتمع المصري لا يمكن على كل حال تجاهل حضور الصوت العالي في النقاش، بل لا يمكن تجاهل أن الصوت العالي أداة أساسية في النقاش، ولكن مع ملاحظة بالغة الأهمية هي أن الصوت العالي في مصر ليس قرين الحجة الواهية بالضرورة وإنما هو أداة مكملة لما يجب أن يمتلكه الواحد من الأدوات اللازمة في ميادين المناظرات الكلامية على أي نطاق. والصوت في تلك المقامات ليس عاليا فحسب، وإنما هو من قبلُ واضح وواثق ومؤثر، وقابل في الوقت نفسه -بسبب ذلك كله- لأن يقنع بدرجة ما حتى إذا كانت حجة صاحبه ضعيفة.
هذه الميزة تخرج بها الشخصية المصرية وراء حدود بلادها الجغرافية، لكنها أكثر تأثيراً على المحيط العربي لا ريب لما هو مشترك ومتقارب من الطبائع والعادات، ولعامل اللغة بشكل أساس.
لا تقلّ القدرات الصوتية المصرية عندما تتعدى حدودها المحلية إلى محيطها العربي، بل على العكس تزداد تأثيراً، وذلك مع أهمية تذكّر ما أشرنا إليه منذ قليل من أن تلك القدرات لا تنحصر في علوّ الصوت ابتداءً وإنما في وضوحه والثقة التي تتجلّى في نبرته، انتهاءً إلى نفاذيته في التأثير، وبما يغطِّي على الحجة الضعيفة بدرجة أو بأخرى إذا لم تكن الحجة القوية من نصيب الطرف المصري في النقاش أو المناظرة.
لكن الأهم على الإطلاق في هذا المقام هو الانتباه إلى أن الصوت المصري بكل مزاياه التي أشرنا إليها (العلوّ، الوضوح، الثقة، القدرة على النفاذ والتأثير) لم يكن أداة المصريين الوحيدة في المطارحات (الحضارية عموماً وليست الصوتية فحسب) على المستوى العربي، وإنما كان أداة مكمّلة، وإن تكن مهمّة في كل الأحوال. أما الأداة الأساس فقد كانت إجادة العمل بصفة عامة، حتى إذا لم تكن تلك الإجادة أفضل من الآخرين في كل مرة بطبيعة الحال.
وهكذا، فإن المصريين -على قدر ما دان لهم، وقد حدث ذلك كثيرا- لم “يأخذوا” العرب بالصوت فحسب وإنما “خدوهم” بالصوت وبالشغل.
للتواصل مع الكاتب (من هنــــا)