كما رأينا في “خدونا بالصوت وبالشغل”، لم يكن الصوت أداة المصريين الوحيدة، أو حتى الأداة الأولى، في كل مطارحة عملية وإن ظلّ أداة مهمة إلى جانب العمل (بصفة عامة) بوصفه الأداة الأساس التي يقف الصوت إلى جوارها داعماً باعتباره أداة مكمّلة وإن تكن بالغة الأهمية وجاذبة بحضورها العميق في حياة المصريين على كل صعيد.
يسرد أحد الرحالة الإنجليز قصة له في كتاب عن رحلة عبر وادي النيل، وبقدر ما أذكر من تفاصيل القصة فإن الرجل كان ضمن مجموعة من رفاقه على مركب كبير انطلق من جنوب الوادي نحو الشمال، وعند منطقة ما في شمال الوادي ظهرت مجموعة من الصيادين المصريين على نهر النيل وجعلت أصواتها تعلو بالتهديد، ثم بادر قائدها بطلقات في الهواء من سلاح ناري كان في حوزته. حمل الرحالة الإنجليزي الطلق الناري في الهواء وصيحات الصيادين المصريين – التي لا يفهم فحواها بطبيعة الحال – محمل الجد، فعكف على تجهيز ما لديه ورفاقه من عتاد المواجهة من الأسلحة النارية لتنتهي المسألة بإرداء أحد الصيادين المصريين قتيلاً.
بعدما حط المستكشف الإنجليزي رحاله في مصر وأقام بين أهلها قدراً من الزمان عاد إلى ذكريات الحادثة النيلية مع الصيادين بمراجعة جديرة بالتأمل، ولأن الرجل كتب ذكرياته مجتمعة في فترة لاحقة فإن الاستدراك يأتي في الكتاب مباشرة بعد القصة، ومفاد ذلك الاستدراك الهام أن الرجل يذكر بأسف واضح أنه لو كان يدرك طبيعة المصريين لما أقدم على الدخول في معركة انتهت بقتيل، مشيراً إلى أن من يعرف طباع المصريين يعلم يقيناً أن كل ذلك الصراخ لم يكن لينتهي بإراقة قطرة دم واحدة لو أن ردة فعله ورفاقه اقتصرت على المراقبة أو التلويح بما يدل على السلام أو حتى الاكتفاء بصرخات وطلقات نارية مقابلة في الهواء.
عند قراءة الكتاب قبل سنوات، عددتُ تلك لفتة بارعة من الرجل في النظرة إلى الصوت كأداة مميزة في الحياة المصرية، وإذ لا أزال أعدّ اللفتة ذكية وعميقة فإنني أرى أن الإيغال في قراءة تجليات الصوت في الشخصية المصرية يكشف عمّا هو أعمق بكثير مما يمكن الاستهانة بأثره، سواءٌ في معركة نيلية عابرة أو في غير ذلك من المقامات مما جلّ خطره أو صغر.
ربما كانت معركة الرحالة الإنجليزي ورفاقه في مواجهة الصيادين المصريين ستؤول إلى نهاية غير دموية، بل ربما كان الأمر سينتهي بتعارف وعناق إذا علم الصيادون المصريون أن الإنجليزي ورفاقه ليسوا سوى “سيّاح” لا يضمرون مآرب أخرى في مقاسمتهم قوت يومهم من خيرات النهر الخالد. ولكن ذلك الاحتمال في التأويل لا يجب أن يعتبر دليلاً على أن المصريين لا يذهبون بوعيدهم الصوتي أبعد من الصراخ، فالصوت العالي كما أشرنا مراراً بالغ الأهمية في السجالات الكلامية لدى المصريين الذين يتركونه (الصوت) يبلغ بهم حيثما يريدون من المساجلة، أو – لمزيد من الدقة – حيثما يسمح المقام للصوت أن يدرك من المكاسب. وعليه، فإن الشخصية المصرية إذا شعرت بتهديد حقيقي، وكانت في موقع يسمح لها بالمواجهة، وأصرّ الطرف الآخر على المضي قدّماً في المجابهة، فإنها لن تتردد في استكمال المعركة بالصوت وبما وراءه مما يقع في حوزتها من أدوات القوة العملية.
غير أن الدلالة الأبلغ للصوت في حياة المصريين لا تكمن في صدق وعيده – أو تباشيره – عندما يتطلّب الأمر وتملك الشخصية المصرية الأدوات اللازمة عملياً للوفاء بما تنذر أو تبشّر به. دلالة الصوت العظمي في حياة المصريين تتجلّى في كونه هو ما يضفي على مصر سحر حيويتها الخاص، بل إنه يمثّل أبرز مكوّنات تلك الحيوية.
وإذا كان الضجيج من أبرز مظاهر “التلوّث السمعي” كما يرد في تعابير وحيثيات الدراسات المتخصصة، ولم تكن آثار ذلك المظهر البارز خافية على أحد في مصر، فإن الحياة المصرية تفقد الكثير من خصوصيتها بدونه على كل حال. فبوق السيارة (الكلاكس) لغة للتفاهم بين السائقين بما يكاد يغلب حتى على قواعد المرور أحياناً، لكنه لغة لتمرير الكثير من الإيماءات وللتنفيس إجمالاً في زحمة الطرق المكتظة بالجالسين والمارة والمركبات ومختلف ما يمكن أن يطرأ على البال في الطريق العام. بذلك فـ “الكلاكس”، الذي هو لا ريب مصدر ضجيج سمعي بارز في الطرق المصرية، إنما هو بصورة موازية أداة نفسية لإعانة المصريين على التنفيس ومواصلة الحياة باتزان في طرقات وأماكن لم تعتمد ابتداءً المعايير المقبولة لكثافة السكان – أو أي من الكائنات والموجودات – في الكيلومتر المربع (أو غيره من وحدات القياس)، فلماذا يُحاسب الصوت “المسكين” على تجاوز المعايير المقبولة للضوضاء ومعظمُ ما حوله من الموجودات على تباينها مخالفٌ ابتداءً لما يخصه من المعايير؟
غير أن ذلك لا يبدو كافياً لتبرير تجاوز الصوت إلى حدود الضوضاء في الحياة المصرية، فمعظم مدن الجنوب الشرقي لقارة آسيا يشارك مصرَ وربما يتفوق عليها في الاكتظاظ الهائل بالسكان ومختلف الكائنات والموجودات، ومع ذلك يحظى الصوت بحضور أقل أثراً بكثير في تلك المجتمعات، بما يجعل الغلبة في الضوضاء لمظاهر التلوث المرئية والمستنشقة. سكان جنوب شرق آسيا حيويّون ولكن على طريقتهم بما يجعل للصوت حضوراً أدنى أثراً في حياتهم قياساً بما له من أثر لدى المصريين، وتلك مقارنة عابرة على كل حال.
لمظاهر الضجيج الصوتي عموماً آثار لا تخلو من تجليات إيجابية عند المصريين، ولبضعة أصوات بعينها آثار أبعد عمقاً وأسلس انسياباً وأشد قبولاً وألفة في مصر، سواء من قبل المصريين أنفسهم أو مَن يحلّ عليهم ضيفاً عابراً أو مقيماً لردح من الزمان. أصوات الباعة في الشوارع، والأصدقاء يتنادون في الطرقات، وترجيع المغنين والمغنيات متعالياً عبر نوافذ البيوت المشرعة وساحات المقاهي الشعبية، كل تلك الأصوات تتضمن قدراً من التجاوز بما قد يدخلها ضمن تصنيفات الضجيج على هذا المعيار العالمي وذاك، لكنه في كل الأحوال ضجيج لا يُكسب الحياة المصرية سمة مميزة فحسب وإنما ينساب مستساغاً في معظم الأحيان لدى المصريين، إلى درجة أن من يضيق به – سواء من المصريين أو من ضيوفهم الذين يفدون عليهم حباً وكرامة – يُعدّ استثناءً، حتى إذا كان ذلك الاستثناء هو الصواب وفق المعايير العالمية لقياس الضوضاء.
وهكذا، ومهما يبلغ تباين المواقف إزاء التقييم سلباً أو إيجاباً للظاهرة الصوتية المصرية على كل صعيد، فإن الصوت يؤكد موقعه ليس فقط باعتباره سمة بارزة في حياة المصريين وإنما بوصفه واحداً من أعظم أسرار حيوية الشخصية المصرية، إن لم يكن أعظمها إطلاقاً.