في “جرعات منشطة في الوريد المصري” وقفنا على واحدة من أهم السمات التي شكّلت خصوصية مصر، وهي جرأتها العظيمة على استيعاب الثقافات الواردة إليها من كل حدب وعلى كل صعيد، فمصر كما رأينا على سبيل المثال العابر “لم تستنكف… عن أن تستوعب ريادة أبي خليل القباني السوري (ذي الأصول التركية بدوره) في المسرح والتمثيل عموما، كما أنها لا تزال تحتفظ لجريدة الأهرام بموقع الصحيفة الأكثر شهرة وتوزيعا لزمان طويل ومؤسِّساها ليسا سوى اللبنانيين بشارة وسليم تقلا، وهي لا تزال تستقبل جحافل الإحساس الغنائي والفني الرفيع من المغرب العربي ومن الشام وغيرهما من أصقاع العالم (ليس العربي وحده) لتصدح وتؤدِّي في الغالب بلهجة وروح مصريتين ولكن دون أن تفارق المتلقّين طبيعةُ الانتساب غير المصري لأولئك المبدعين.
كل ذلك مجددا على سبيل المثال، فما تغلغل في الكيان المصري عبر العصور بالغزو الصريح وبالتلاقح السلس (وكثيرا ما كان الحدثان يقعان معا بصورة متوازية وأحياناً متداخلة) يظل أعمق أثرا من أن يستوعبه سياق واحد مهما يبلغ من الدقة والتفصيل.
هذا مع أهمية الانتباه إلى أن جرأة مصر العظمى قد تبدّت كما رأينا على الصعيد نفسه في الامتزاج إلى حدّ التصاهر بمدلوله البيولوجي المباشر مع كل الأعراق التي استقرت فيها أو حتى مرّت عبرها، وذلك بما امتدّ بتداعياته الفريدة عميقا في تربة الإبداع المصري فزادها خصوبة وثراءً: “فضلا عن الجرعات المنشطة ثقافيا واجتماعيا في الوريد المصري، فإن أثر الجينات المنشطة بالمعنى البيولوجي المباشر لم يكن أقلّ عمقا ولم تكن مصر بدورها أقل تجاسرا على استيعابه والإفادة منه من ثم، ليس تعمّدا بالضرورة بوصفه سبيلا إلى “تحسين النسل” بيولوجيا، وفي الوقت نفسه دون إنكار ما يمكن أن يكون لآثار التزاوج البيولوجي من فوائد وهبات عظيمة تخلع أثرها تلقائيا على عمليات “تحسين النسل” الثقافي والاجتماعي والحضاري بصفة عامة”.
ازدادت تربة الإبداع المصري خصوبة وثراءً إذن بالتلاقحات الحضارية المشار إليها على كل مستوى، ولكن ماذا عن أثر هذه التلاقحات على الشخصية المصرية؟ الأرجح أن تلك التداخلات الحضارية لم تطمس خصوصية الشخصية الوطنية المصرية وإنما زادتها تميّزا وفرادة. وإذا كان النقاء العرقي – كما بات شائعاً القول – يكاد يكون (أو هو بالفعل) أكذوبة على امتداد حضارات العالم، فإن ما ميّز الشخصية المصرية ابتداءً لم يكن نقاءً عرقياً، والمصريون على كل حال لم يزعموا ذلك أساساً قدرَ ما ظلّ زهوُهم مستنداً إلى خصوصية حضارية جامعة وشديدة الفرادة في الوقت نفسه أكثر من كونها خصوصية عرقية.
لم تحتفظ إذن الشخصية المصرية بخصوصيتها على مرّ الحضارات فحسب، وإنما أفادت من كل ما مرّ بها من الأعراق وتغلغل فيها غزواً وتزاوجاً كي يزيدها خصوصية، فظلت تزهو بتميّزها الحضاري بعيداً عن أية عصبية عرقية فيما وراء كلمة “المصريين” التي تحتفظ بدورها بمدلول حضاري عميق أكثر من كونه مدلولا عرقيا من أي قبيل بما في ذلك ما يمكن أن ينطوي تحت كلمة “الفراعنة” التي تختصر تحديداً خصوصية مصر الحضارية وليست العرقية ابتداءً.
بعيدا عن أية عصبية تنهض فتتصدى لها عصبية مقابلة مما لا يسلم منه أي مجتمع في أي زمان، سواءٌ داخلياً أو في مواجهة غيره من المجتمعات، فإنه من الحكمة أن ننظر إلى تفوّق الخصوصية الحضارية التي تجبّ الخصوصية العرقية بصفة عامة، لا سيما في ظلال استحالة إثبات نقاء أي عرق منفرد في المجتمعات الحديثة.
يبدو أن الشخصية المصرية وعت ذلك الدرس منذ فجر التاريخ، فدانت لها الريادة على طريقتها الخاصة في تعريف واستيعاب الشخصية الوطنية بعيداً عن شروط وأحكام القيود العرقية القاسية والمستحيلة في الوقت نفسه، إلا ما كان على سبيل المكابرات المنطقية والمغالطات العلمية، وذلك بالنظر إلى ما تكشّف حديثاً بصورة جليّة لا سيما في بضعة عقود أخيرة. فطن المصريون إذن إلى تلك الرحابة في استيعاب الحضارة قديماً جدّاً فلم ينكروا مفهوم العرق على الأرجح وإنما فتحوا آفاقه ليستوعب كل ما وسع أرضُ مصر أن تحتضنه ممن وفد عليها واندمج فيها وصدر من بعدُ في حياته وإبداعه عن روحها راضياً مرضياً.
تشاهد مجموعة من المصريين على أي صعيد شعبي أو نخبوي فتلحظ من تباين الملامح ما يجعلك تتقلب بين شرق الدنيا وغربها وشمالها وجنوبها، رغم أن كل واحد ممن تضمهم المجموعة لا يتحدّث بلسان مصري فحسب وإنما يصدر عن روح مصرية واحدة جامعة تفلح في تشتيت انتباهك عن أصله الذي انحدر منه، بل ربما تستحضر ذلك الأصل وتجعلك تأنس لتغلغله واندماجه في مكوّنات الشخصية …