رباب طلعت
لم تخلو الأعمال الفنية سواء على شاشة السينما أو التلفزيون من تقديم دور مدبر المنزل منذ زمن الأبيض والأسود، وقد اشتهر الكثير من الفنانين بتقديمه ولعل أبرزهم كانت الراحلة وداد حمدي، التي قدمته بطرافة وبساطة لم ينافسها فيها أحد، كما قدمه العديد من الفنانين بصورة تبرز مزيد من الودية والقرابة بين مالك المنزل ومدبره، مثل إنعام سالوسة في عائلة الحاج متولي، وآخرين كثر، ويمتد ذلك إلى دراما رمضان 2021، ولكن بشكل مختلف، وبتناولٍ ابتعد عن العلاقة التقليدية بين الخادم والمخدوم، بل هناك تسليط للضوء على المزيج الإنساني الذي يربط الطرفين ببعضهما، في العديد من الأعمال.
من الصعب وصف “طريف” الذي يقدمه الفنان محمد محمود في مسلسل “نجيب زاهي زركش” بأنه “خادم” كاللفظ الدارج، أو “مدبر المنزل” أو “المساعد” كالترجمة الحرفية من الإنجليزية للعربية، فهو أقرب لـ”نجيب” الذي يجسده الفنان الكبير يحيى الفخراني، من مجرد مساعد أو سائق، فهو “نديمه”، يسامره ليلًا ويستمع إليه في ساعات السكر وكشف الذات والأحاديث الطويلة التي هي مزيح بين الفضفضة تارة وجلد الذات تارة أخرى ووجهات النظر الفلسفية تارات أكثر، وهو خادمه المخلص صباحًا، الذي يقدم له طلباته ويرد إليه المنح المالية السخية التي أعطاها له أثناء سكره، يبحث عن الانتفاع من هنا وهناك بـ”بقشيش” مكافئة لخدماته لسيد المنزل أو شقيقته أو زواره.
“طريف” وهو اسم على مسمى، ليس مجرد مدبر منزل عادي، فهو صاحب قرار في المنزل، مهما كانت سطوة صاحبه وحدة طباعه إلا أنه يمتلك مفاتيح شخصيته، يعرف جيدًا كيف يجبره على فعل شيء لا يريده وإقناعه به، حتى وإن غضب “نجيب” وانهال عليه بعبارات اللوم إلا إنه ينفذ ما يره “طريف” صحيحًا، ما يراه “طريف” الذي هو هنا صوت ضميره يجب أن يحدث.
قدم محمد محمود دور “طريف” بنجاح لم يسبقه له دور آخر للفنان الكبير الذي أحبه الجمهور في كافة أعماله لشدة إتقانه لأدواره وتقديمه للكوميديا بسلاسة وبساطة بعيدًا عن التكلف والاصطناع و”الإفيه”، حيث صنع “طريف” مجد خاص لمحمود محمود، في واحد من أهم أدواره على الإطلاق، وواحد من أهم أدوار المسلسل ككل، فطريف أيضًا هو الراوي والمعلق للجمهور على الأحداث، هو من يخاطبهم كأنه يراهم كما يروه، وفي الحقيقة قد رآه المشاهد بالفعل عن قرب كإنه شخص يعرفه منذ سنوات ويألفه، كما يألفه صديقه ورئيسه “نجيب”.
دور “طريف” سلط الضوء على أحد أهم الجوانب إنسانية في علاقة مدبر المنزل وصاحبه، خاصة أولئك الذين قضوا أعمارهم في خدمة أسرة بعينها، ليكمل مسيرة أهله في ذلك، حيث يترعرع مع ابن صاحب المنزل، ويكبر معه، حتى يصبح هو صاحب المنزل، فتنشأ بينهما علاقة وطيدة، هي مزيج بين الصداقة والعشرة التي تزداد قوتها كلما ازدادت الأسرار بينهما، وكلما كبر كل منهما بجانب الآخر، كما ابتعدت الأحداث عن شكل الإهانة المباشر أو الذي يحمل نوعًا من الإهانة لشخص “طريف” بل كانت نوبات غضب “نجيب” مهما احتدت تحمل بعضًا من الود لصديقه المسائي، ومساعده في الصباح، كما يستقبلها “طريف” بكل تفاهم ومحبة حتى وإن لم يتم الإفصاح بها بشكل مباشر، تظهر في حرصه على حمايته من أن يقع في الكثير من الأخطاء، أو ينقاد وراء هواه دون أن يذكره بنتيجة ذلك.
في المسلسل الكوميدي السوري الشهير “دنيا” قدمت أمل عرفة دور “دنيا” الخادمة الريفية التي تنتقل من منزل إلى منزل، حيث إنها لا تعمر في مكان تذهب إليه لإنها على نقيض الأكذوبة التي تروجها دائمًا عن نفسها بأنها “لا تسمع لا ترى ولا تتكلم” فهي تفعل كل ذلك بطريقة توقعها في المشاكل والمخاطر التي لا تنتهي أبدًا، وعلى نفس الطريقة يصف “شفيع” الذي يقدمه الفنان مصطفى حشيش نفسه في مسلسل “قصر النيل”، فهو دائمًا ما يؤكد على إنه “لا يسمع لا يرى ولا يتكلم”، و”لا يجيب على سؤال لم يوجه له”، ولكنه ليس كذلك، فهو سهل الإفصاح عما يعلم إذا ما وجه له أحدهم سؤالًا، ويرى كل شيء ويسمع كل شيء ولكنه بالفعل لا يتكلم إلا إذا طلب منه ذلك.
شخصية “شفيع” شخصية جدية تمامًا، هادئ الطباع، تليق شخصيته على العمل في منزل “السيوفي” العائلة العريقة والثرية، فهو مدبر قصر وليس منزل عادي، يتعامل وفقًا لـ”إتيكيت” فترة ما بين الأربعينات والستينيات، يرتدي “يونيفورم” يليق بمكان عمله، ويسير بخطوات هادئة وثابتة ووقورة كشخصيته تمامًا.
أبدع مصطفى حشيش في تقديم دور “شفيع” الشخص الذي يظهر وكأنه ليس طرفًا في الأحداث، ولكنه بالفعل أحد محركيها الأساسيين، فمدبر المنزل الذي يقدمه، هو من يمتلك بحكم سنوات خدمته مفاتيح الجميع وأسرارهم، فلا يخفى عليه شيء، وولائه للجميع دون تمييز بينهم، فهو “موظف” يجب أن يقدم خدماته بشكل مرضي لكل العاملين بالمنزل الذي يعمل فيه، وهو من يفتح أمام تحقيقات الشرطة في جريمة قتل “منصور السيوفي” الكثير من الأبواب المغلقة، ويخبئ دائمًا في جعبته المزيد من الأسرار والحكايات التي لا يعرفها أحد بقدر ما يعرفها هو، كما إنه محل ثقة الجميع، فهو خادمهم المخلص والوفي “اللي منهم فيهم” كما يصف نفسه، عندما يخبرهم بأنه لا يعير المرتب اهتمامًا، بقدر اهتمامه بهم، ومن الطبيعي أن يتحمل عدم قدرتهم على دفعه له لأنه أحد أفراد الأسرة بالفعل.
“نور” التي تقدمها الفنانة الشابة مايان السيد، ليست مدبرة منزل، إنما هي ابنة مدبرة منزل “مريم” التي تجسدها الفنانة يسرا في “حرب أهلية”، ولكن على الرغم من عدم ظهور والدة “نور” كشخصية إلا أن العلاقة التي تربط بين “مريم” و”نور” كافية للتعرف على مدى قرب صاحبة المنزل بمدبرته، ليس فقط لأنها تبنت ابنتها وتكفلت برعايتها وتربيتها وأحبتها كابنتها تمامًا، ولكن أيضًا لما يظهر من تقديرها لها عندما يذكر اسمها في الحديث.
اللافت في الرابط الإنساني بين “نور” و”مريم”، هو مدى صدقه وقوته، فـ”مريم” لم تربي نور شفقة، إنما محبة، فهي نور بالفعل لحياتها، حيث استطاعت أن تعوضها عن ابنتها، التي ابتعدت عنها عنوة، بعد طلاقها من والدها، حيث نجح الأخير في جعل ابنته تكره والدتها وتكره رؤيتها، فكانت “نور” لها نجاة من الوحدة وقسوة التفكير في مصيرها مع ابنتها، وبالمقابل كانت “مريم” لنور طوق النجاة من حياتها مع أخيها غير الشقيق، والذي ألمحت في أحد المشاهد بأنه ووالدته أحد أسباب وفاة والدتها حزنًا بسبب ما فعلاه معها، كما كانت حضنًا وأمًا بديلة لأمها، فلم تشعر في منزل “نور” بأنها ابنة مدبرة المنزل، إنما ابنة صاحبته.
الصراع الداخلي الذي تقدمه مايان السيد من خلال شخصية نور أيضًا، بين انتمائها لـ”مريم” كأم ربتها واعتنت بها ومستواها الاجتماعي الذي ترعرعت فيه، و”مريم” كربة المنزل التي مهما كانت شدة حبها لها إلا أنها تحب ابنتها أكثر، وكذلك رفض والدة الشخص الذي أحبها لها، لأنها اعتبرتها “خادمة” ولم تعر أي شيء آخر اهتمامًا سوى ذلك، وعدم اعتراف “تمارا” ابنة “مريم” التي تجسدها جميلة عوض، بها كأخت وتأكيدها على إنها مجرد مساعدة لوالدتها اعتنت بها حبًا في والدتها الراحلة، كان أحد أهم القضايا التي سلطت عليها الشخصية الضوء، حيث لم يغفل العمل عن حقيقة يصعب تجاهلها، وهو نظرة المجتمع لأبناء العاملين في المنازل.
دور مدبري المنزل المقربين من أصحاب المنزل، يتكرر أيضًا في أغلب الأعمال الدرامية هذا العام، حيث تقدمه الفنانة إيمان السيد بجرعة كوميدية مكثفة، في “اللي مالوش كبير” بشخصية “مفاتن”، والذي يجمعها للعام الثاني بالفنانة ياسمين عبد العزيز، بعد نجاح شخصية “رائعة” العام الماضي في “ونحب تاني ليه”.
إيمان السيد التي تعيد تقديم دور مدبرة المنزل الكوميدية، من جديد، في طريقة أقرب لمدرسة وداد حمدي، استطاعت أن تخلق حالة وعلاقة مختلفة بين مدبرة المنزل وربته، قائمة على المشاهد الكوميدية، التي لا تخلو من الفضفضة والإفصاح عن الأسرار، ومشاركة كل ما يمر به أهل البيت من حزن وفرح، فهي هنا أقرب لصاحبة من المنزل من أقرب صديق، بل هي صديق من نوع مختلف وأحد أفراد الأسرة.
هدير عبدالناصر أيضًا تقدم دور مشابه، ولكن بدون كوميديا بـ”بارة” في “نسل الأغراب” مع مي عمر “جليلة” صاحبة المنزل المدللة من زوجها، والتي تشاركهم “بارة” في تدليلها، وتسير ورائها بـ”البخور” لحمايتها من العين والحسد على جمالها، وتلعب “بارة” دورًا هامًا في حياة “جليلة” فهي من تطرح عليها الأسئلة الهامة، وتساعدها في الاختيار، ولا تخون ثقتها أبدًا.