وَبَنَينا فَلَم نُخَلِّ لِبانٍ وَعَلَونا فَلَم يَجُزنا عَلاءُ
وَمَلَكنا فَالمالِكونَ عَبيدٌ وَالبَرايا بِأَسرِهِم أُسَراءُ
قُل لِبانٍ بَنى فَشادَ فَغالى لَم يَجُز مِصرَ في الزَمانِ بِناءُ
تلك أبيات ذائعة من رائعة شوقي المنشورة في ديوانه تحت عنوان “كبار الحوادث في وادي النيل”، والعنوان موضوعي بامتياز، كما إن القصيدة نفسها من الناحية الفنية من طراز أحمد شوقي بمجمل ما يمكن الإشارة إليه باختزال في التعبير الذائع: “كمّا ونوعا”.
المقصود بالكمّ هنا ليس عدد الأبيات إجمالا وإنما ما يمكن وصفه بـ”النفَس الطويل” المتمثل في القدرة على السرد بحسب ما يستدعي السياق من الاستفاضة دون أن يشعر المتلقي بالملل وإنما بالانجذاب إلى الحكاية المرويّة. مقابل ذلك تدخل الأبيات الثلاثة أعلاه في غرض “الفخر” من أوسع أبوابه وأكثرها ترحابا في الوجدان العربي الذي يجسّده الشعر الغنائي المعني بالمبالغة كواحدة من أشهر موجبات الإجادة الفنية في القصيدة العربية القديمة والتي امتدّت بسطوتها طويلا -وعريضا- في سيرة الحياة العربية، ليس على المستوى الأدبي والفكري فحسب وإنما اجتماعيا وسياسيا كذلك. هذا ويبلغ الفخر منتهاه مع هذا البيت الرفيع استناداً إلى أحكام النقد الكلاسيكي للقصيدة العربية العمودية:
إِن يَكُن غَيرَ ما أَتَوهُ فَخارٌ فَأَنا مِنكَ يا فَخارُ بَراءُ
لكن بالانتباه إلى أن الأبيات السابقة تقع في بدايات القصيدة الملحمية، التي يتجاوز عدد أبياتها مائتين وستين بيتا، وأنها في سياق استعراض حقبة بعينها من تاريخ مصر، يمكن أن يُرفع عن الشاعر العظيم حرج/تهمة الانجراف العاطفي على حساب الموضوعية والحقيقة، ومعلوم على كل حال أنه لا يمكن الاتفاق على “الموضوعية” و”الحقيقة” على أي صعيد، فالكل يسعى إلى الاستحواذ على الكلمتين بما يخدم أهدافه حتى أوشكت الكلمتان أن تغدوا وهما، أو خيالا، أو حلما بالتعبير المخفف والملطّف. الشاعر العظيم لا يعرض – على كل حال – كبريات الحوادث في وادي النيل خلال قصيدته الملحمية دون أن يشير صراحة إلى رأيه في كل حقبة، بل بتأكيد مشاعره وميوله في أوائل الكلمات مع بدايات الأبيات التي تتناول كل حقبة من تاريخ مصر، وبما يتداخل فيتكرر ويمتد ليشمل القصيدة ويطبعها عموماً بطابع عاطفي وجداني يتخلل “حقائق” الوقائع التاريخية العظمى.
ذلك مدخل أدبي مستفيض – نسبيا – لما نود الوقوف عنده في هذا المقام، ولكن شاعرية شوقي العظيمة من الصعب تجاوزها حتى عندما يكون المراد من الاستشهاد تأمّلاً نفسياً واجتماعياً لمصر انطلاقاً من خلفية تاريخية زاخرة بالأحداث الجسيمة والعظيمة. ففيما يلي من الأبيات يثِب الشاعر العملاق بسلاسة إلى حقبة أخرى عبر نقلة تاريخية شديدة الحدة، وسلاسةُ الانتقال (التي توصف أمثالها في النقد الأدبي لدى العرب قديماً بحسن التخلص من غرض إلى غرض) لا تمنع الإقرارَ على كل حال بفداحة الأحداث الجسيمة وما يعتور كلَّ مَن يستعرضها مِن مرارة الألم الحادّ:
لَيتَ شِعري وَالدَهرُ حَربُ بَنيهِ وَأَياديهِ عِندَهُم أَفياءُ
ما الَّذي داخَلَ اللَيالِيَ مِنّا في صِبانا وَلِلَّيالي دَهاءُ
فَعَلا الدَهرُ فَوقَ عَلياءِ فِرعَو نَ وَهَمَّت بِمُلكِهِ الأَرزاءُ
أَعلَنَت أَمرَها الذِئابُ وَكانوا في ثِيابِ الرُعاةِ مِن قَبلُ جاؤوا
وَأَتى كُلُّ شامِتٍ مِن عِدا المُل كِ إِلَيهِم وَاِنضَمَّتِ الأَجزاءُ
وَمَضى المالِكونَ إِلّا بَقايا لَهُمُ في ثَرى الصَعيدِ اِلتِجاءُ
فَعَلى دَولَةِ البُناةِ سَلامٌ وَعَلى ما بَنى البُناةُ العَفاءُ
وَإِذا مِصرُ شاةُ خَيرٍ لِراعي السَو ءِ تُؤذى في نَسلِها وَتُساءُ
قَد أَذَلَّ الرِجالَ فَهيَ عَبيدٌ وَنُفوسَ الرِجالِ فَهيَ إِماءُ
فَإِذا شاءَ فَالرِقابُ فِداهُ وَيَسيرٌ إِذا أَرادَ الدِماءُ
وَلِقَومٍ نَوالُهُ وَرِضاهُ وَلِأَقوامِ القِلى وَالجَفاءُ
فَفَريقٌ مُمَتَّعونَ بِمِصرٍ وَفَريقٍ في أَرضِهِم غُرَباءُ
كل ما سبق يفضي بنا إلى “بيتَيْ القصيد” من الوجهة النفسية والاجتماعية التي نود إبرازها في هذا المقام على الصعيد الإنساني العريض، وأرجو أن يجوز التعبير. والبيتان هما:
إِن مَلَكتَ النُفوسَ فَاِبغِ رِضاها فَلَها ثَورَةٌ وَفيها مَضاءُ
يَسكُنُ الوَحشُ لِلوُثوبِ مِنَ الأَس رِ فَكَيفَ الخَلائِقُ العُقَلاءُ
وإذا كان شوقي يستمر في سرد الوقائع محتفياً بعودة المجد القديم بعد أن قال الناس من شدة الظلام وطول عهده بأنه قد “ماتَ الصَباحُ وَالأَضواءُ”:
وَأُعيدَ المَجدُ القَديمُ وَقامَت في مَعالي آبائِها الأَبناءُ
وَأَتى الدَهرُ تائِباً بِعَظيمٍ مِن عَظيمٍ آباؤُهُ عُظَماءُ
مَن كَرَمسيسَ في المُلوكِ حَديثاً وَلِرَمسيسٍ المُلوكُ فِداءُ
إذا كان شوقي يحتفي على ذلك النحو وما يليه في القصيدة الخالدة بعودة المجد القديم، فإن الأبرز مما هو جدير بالقراءة بالنسبة لنا لا يقف عند عودة مصر إلى الصعود مجدداً ممثلة في رمسيس الذي يزكّيه الشاعر بوصفه متفرّداً عن بقية الملوك ويجعلهم فداءً له، وإنما يتخطى الأجدرُ بالقراءة على هذا الصعيد رمسيس في حقبة بعينها ليشمل سلوك الشخصية المصرية مجملاً في أعقاب الانطلاق من الأسر بصفة عامة على مدى تاريخها، وبصفة أشد خصوصية في التاريخ الحديث وقد آلت إمرتُها إليها تحرراً من أشكال هائلة من السيطرة والتدخلات الأجنبية شديدة التباين على مرّ القرون.
حديثاً، لم تثِب الشخصية المصرية لتتحرّر من الأسر فحسب، بحسب تعبير شوقي، وإنما بدت كأنها تنفجر بالقوة الهائلة لضغط القرون لتنطلق توّاقة إلى القيادة والسيطرة على ما حولها مستفيدة أساساً من خبراتها بالغة الثراء والمتراكمة عبر الزمان، سواء الخبرات التي قنصتها من كل ما مرّ عليها أو جثم على صدرها على كرّ الدهور من القوى والحضارات، أو من خبرتها الذاتية الخالصة في التكيف والتعامل مع القوى العابرة والجاثمة على تبايناتها العريضة وما تستوجبه تلك التباينات العظيمة من مهارات منقطعة النظير في القدرة على التكيّف بما يصل أحياناً إلى شكل من أشكال التطويع للسلطة الأجنبية الحاكمة نفسها.
باستعارة التعبير الذائع، فإن مارِدَ الشخصية المصرية قد خرج من قُمقمه قوياً بطاقة مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتجاه لما ظل يضغطه عبر العصور، وغنيّاً بقدر ما قنصه من تنوّع وثراء الخبرات التي أفاءتها عليه تلك التجارب منقطعة النظير من أشكال الحكم على مدى التاريخ.
للتواصل مع الكاتب (من هنـــا)