نعود إلى جيمس هنري بريستد James Henry Breasted في “فجر الضمير” The Dawn of Conscience، ولكن بصورة أقرب إلى ما أراده من كتابه وليس على سبيل الاستلهام المناوش كما رأينا في الحديث عن “شيطان المصريين”. وإن يكن من المهم التذكير في هذا المقام أيضا بأن بريستد معني في كتابه كما يؤكد باستعراض “مراحل تطور الرقي الأخلاقي عند المصريين الأقدمين”، على اعتبار أن “الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن”، وهو ما يشير إليه بوصفه “الحقيقة المتفق عليها الآن”.
يقول بريستد: “والواقع أنه لا توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم مثل قوة الدين، لأن تأثيرها يشاهد واضحاً في كل نواحي نشاطه، ولم يكن أثر هذه القوة في أقدم مراحلها الأولى إلا محاولة بسيطة ساذجة يتعرف بها الإنسان ما حوله في العالم ويخضعه بما فيه الآلهة لسيطرته، فصار وازع الدين هو المسيطر الأول عليه في كل حين، فما يولده الدين من مخاوف هي شغله الشاغل، وما يوحي به من آمال هي ناصحه الدائم، وما أوجده من أعياد هي تقويمه السنوي، وشعائره برمتها هي المربية له والدافعة له على تنميته الفنون والآداب والعلوم”.
يواصل: “على أن الدين لم يمس حياته في جميع نواحيها فحسب، بل الواقع أن الحياة والفكر والدين امتزجت عنده بعضها ببعض امتزاجاً لا انفصام له يتكون منها كتلة واحدة تتداخل بعضها في بعض مؤلفة من المؤثرات الخارجية والقوى الإنسانية الباطنة. ولذلك كان طبيعياً ألا يقف الدين جامداً من غير أن يتمشى مع هذه العوامل الدائمة التطور من مرحلة إلى مرحلة. هكذا كان الحال منذ أقدم العصور التي وصل إليها علمنا، كل الأسباب تحملنا على الاعتقاد بأن الحال ستستمر كذلك: تطور وارتقاء. وسنرى الآن شيئاً من هذا التطور الذي ظل فيه الكفاح قائماً بين العالم الظاهري المحيط بالإنسان، والعالم الباطني الكامن في نفسه، حتى تكوّن الدين وتحدّد وأفضى بالتدريج في نهاية الأمر إلى ظهور المبادئ الأخلاقية عند أقدم مجتمع بشري عظيم في خلال مدة تربو على ثلاثة آلاف سنة”.
وبرغم أن جيمس بريستد ينتبه إلى الفرق بين الدين والأخلاق، وهو انتباه دقيق بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع رؤى المؤلف على هذا الصعيد على امتداد استعراضه الملحمي في الكتاب لسيرة “الضمير” عبر العصور المصرية الطويلة، فإن التديّن تحديداً في حياة المصريين عبر القرون يمكن التماسه بصور أكثر وضوحاً وإلهاماً في العديد من المراجع الأخرى. وسنعود مرة أخرى لرائعة شوقي “كبار الحوادث في وادي النيل” التي لا تخلو – بطبيعة استعراضها الملحمي بدورها – من إشارات واضحة إلى الدين والتديّن في حياة المصريين عبر تاريخهم الطويل والعريض. ولأن شوقي نفسه شاعر شديد التديّن، على شاكلة أقرب إلى ما نراه في مفهوم التديّن لدى المصريين، فإن وقفاته الدينية على مفاصل التاريخ المصري ذات الصلة تتّسم بالعمق والإلهام، وذلك أيضاً بصرف البصر عمّا تكتسي به تلك الآراء من نزعات شخصية لا يسلم منها الشعراء فحسب وإنما المؤرخون كذلك.
يبدأ شوقي سياحته الدينية في التاريخ المصري بإشارة عابرة:
أَجفَلَ الجِنُّ عَن عَزائِمَ فِرعَو نَ وَدانَت لِبَأسِها الآناءُ
شادَ ما لَم يُشِد زَمانٌ وَلا أَن شَأَ عَصرٌ وَلا بَنى بَنّاءُ
هَيكَلٌ تُنثَرُ الدِياناتُ فيهِ فَهيَ وَالناسُ وَالقُرونُ هَباءُ
ثم لا يلبث أن يصوّب بعمق نحو فجر العقيدة (ليس فجر الضمير بالضرورة كما عند جيمس برستد) كأنما يستغفر الله عن التوجّه الذي كان – من قِبل البشرية عامة والمصريين خاصة – نحو الطبيعة بحثاً عن الإله وسر الوجود، وهو استغفار واعتذار لا يخفى ما به من براعة الشاعر العظيم في حسن التخلص إلى ما يريده من المعاني والمرامي:
ربِّ شُقتَ العِبادَ أَزمانَ لا كُت بٌ بِها يُهتَدى وَلا أَنبِياءُ
ذَهَبوا في الهَوى مَذاهِبَ شَتّى جَمَعَتها الحَقيقَةُ الزَهراءُ
فَإِذا لَقَّبوا قَوِيّاً إِلَها فَلَهُ بِالقُوى إِلَيكِ اِنتِهاءُ
وَإِذا آثَروا جَميلاً بِتَنزي هٍ فَإِنَّ الجَمالَ مِنكِ حِباءُ
وَإِذا أَنشَؤوا التَماثيلَ غُرّاً فَإِلَيكِ الرُموزُ وَالإيماءُ
وَإِذا قَدَّروا الكَواكِبَ أَربا باً فَمِنكِ السَنا وَمِنكِ السَناءُ
وَإِذا أَلَّهوا النَباتَ فَمِن آ ثارِ نُعماكِ حُسنُهُ وَالنَماءُ
وَإِذا يَمَّموا الجِبالَ سُجوداً فَالمُرادُ الجَلالَةُ الشَمّاءُ
وَإِذا تُعبَدُ البِحارُ مَعَ الأَس ماكِ وَالعاصِفاتُ وَالأَنواءُ
وَسِباعُ السَماءِ وَالأَرضِ وَالأَر حامُ وَالأُمَّهاتُ وَالآباءُ
لِعُلاكَ المُذَكَّراتُ عَبيدٌ خُضَّعٌ وَالمُؤَنَّثاتُ إِماءُ
جَمَعَ الخَلقَ وَالفَضيلَةَ سِرٌّ شَفَّ عَنهُ الحِجابُ فَهوَ ضِياءُ
ليتوّج هذا الاستغفار والاعتذار بزعم وحجة واعتزاز يسوقها جميعاً في تأدّب رفيع وهو يخاطب الذات الإلهية بلسان المصريين على اختلاف عقائدهم وامتداد تاريخهم:
رَبِّ هَذي عُقولُنا في صِباها نالَها الخَوفُ وَاِستَباها الرَجاءُ
فعَشِقناكَ قَبلَ أَن تَأتِيَ الرُس لُ وَقامَت بِحُبِّكَ الأَعضاءُ
وَوَصَلنا السُرى فَلَولا ظَلامُ ال جَهلِ لَم يَخطُنا إِلَيكِ اِهتِداءُ
لكن أعمق ما يُراد بـ”تدّين المصريين” يمكن التماسه فيما عبّر عنه شوقي في الأبيات التالية، حيث تمتزج في نفس الشاعر الحقيقة التاريخية بحب الوطن وتعظيمه وبعشق وتقديس الذات الإلهية حتى عندما تكون هذه المكوّنات والمؤثرات الثلاثة متعارضة وأحياناً متضاربة بوضوح شديد:
وَاِتَّخَذنا الأَسماءَ شَتّى فَلَمّا جاءَ موسى اِنتَهَت لَكَ الأَسماءُ
حَجَّنا في الزَمانِ سِحراً بِسِحرٍ وَاِطمَأَنَّت إِلى العَصا السُعَداءُ
وَيُريدُ الإِلَهُ أَن يُكرَمَ العَق لُ وَأَلّا تُحَقَّرَ الآراءُ
ظَنَّ فِرعَونُ أَنَّ موسى لَهُ وا فٍ وَعِندَ الكِرامِ يُرجى الوَفاءُ
لَم يَكُن في حِسابِهِ يَومَ رَبّى أَن سَيَأتي ضِدَّ الجَزاءِ الجَزاءُ
فَرَأى اللَهُ أَن يَعِقَّ وَلِلَّ هِ تَفي لا لِغَيرِهِ الأَنبِياءُ
مِصرُ موسى عِندَ اِنتِماءٍ وَموسى مِصرُ إِن كانَ نِسبَةٌ وَاِنتِماءُ
فَبِهِ فَخرُها المُؤَيَّدُ مَهما هُزَّ بِالسَيِّدِ الكَليمِ اللِواءُ
إِن تَكُن قَد جَفَتهُ في ساعَةِ الشَكِّ فَحَظُّ الكَبيرِ مِنها الجَفاءُ
خِلَّةٌ لِلبِلادِ يَشقى بِها النا سُ وَتَشقى الدِيارُ وَالأَبناءُ
فَكَبيرٌ أَلّا يُصانَ كَبيرٌ وَعَظيمٌ أَن يُنبَذَ العُظَماءُ
ثم ينتقل الشاعر إلى سيرة مصر مع المسيح، وهي انتقالة لا ريب ستكون خالية من مظاهر الاصطدام الحاد التي رأيناها مع مقدم موسى عليه السلام وأقلّ تطلّباً للحجج الملطّفة من قِبل الشاعر وأكثر سلاسة من ثم:
وإِذا الهَيكَلُ المُقَدَّسُ دَيرٌ وَإِذا الدَيرُ رَونَقٌ وَبَهاءُ
وَإِذا ثَيبَةٌ لِعيسى وَمَنفي سُ وَنَيلُ الثَراءِ وَالبَطحاءُ
إِنَّما الأَرضُ وَالفَضاءُ لِرَبّي وَمُلوكُ الحَقيقَةِ الأَنبِياءُ
لَهُمُ الحُبُّ خالِصاً مِن رَعايا هُم وَكُلُّ الهَوى لَهُم وَالوَلاءُ
إِنَّما يُنكِرُ الدِياناتِ قَومٌ هُم بِما يُنكِرونَهُ أَشقِياءُ
ومع مقدم خاتم المرسلين ينصرف الشاعر إلى ما هو إنساني بحسب طبيعة الرسالة الخاتمة:
أَشرَقَ النورُ في العَوالِمِ لَمّا بَشَّرَتها بِأَحمَدَ الأَنباءُ
جاءَ لِلناسِ وَالسَرائِرُ فَوضى لَم يُؤَلِّف شَتاتهُنّ لِواءُ
وَحِمى اللَه مُستَباحٌ وَشَرعُ ال لَهِ وَالحَقُّ وَالصَوابُ وَراءُ
تِلكَ آيُ الفُرقانِ أَرسَلَها ال لَهُ ضِياءً يَهدي بِهِ مَن يَشاءُ
نَسَخَت سُنَّةَ النَبِيّينَ وَالرُس لِ كَما يَنسَخُ الضِياءَ الضِياءُ
ليرجئ الحديث عن سيرة مصر تحديداً مع بدايات الرسالة الخاتمة ريثما تدخل مصر في خضم الدولة الإسلامية تمهيداً لأن تصبح في العصور اللاحقة واحدة من أهم مراكزها:
فَاِبكِ عمراً إِن كُنتَ مُنصِفَ عَمرو إِنَّ عمراً لَنَيِّرٌ وَضّاءُ
جادَ لِلمُسلِمينَ بِالنيلِ وَالني لُ لِمَن يَقتَنيهِ أَفريقاءُ
فَهيَ تَعلو شَأناً إِذا حُرِّرَ الني لُ وَفي رِقِّهِ لَها إِزراءُ
رحلة مصر مع الدين إذن تحمل من الفرادة مثلما يحمل تاريخها الذي امتحن مختلفَ الأمم غزاةً وضيوفاً وعابري سبيل. وقد ظلت نزعة المصريين على الأرجح في التديّن طاغية ومتماثلة على اختلاف الحقب من حيث إذعانها العظيم للخالق خوفاً ورجاءً، وهي نزعة عميقة وأصيلة لا يقلل من عمقها أو أصالتها تباينُ أشكال التديّن المصري واختلاف تداعيات كل شكل من تلك الأشكال في أرض الواقع على امتداد الزمان.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])