عندما نودع بعض الفنانين يتجدد فى أعماقنا على الفور هذا السؤال الذى يفرض نفسه وبإلحاح: هل بالفعل أكملوا رسالتهم؟ وهل كان لديهم شىء آخر لم تمكنهم الأقدار من إرساله إلينا؟ مع الكبار فى العادة لا مجال لهذا السؤال، ولكن عندما يرحل فنان فى مقتبل أو منتصف العمر نشعر للحظة الأولى أنه رحل وسره الفنى معه.
كثير من المبدعين رحلوا وهم فى ذروة العطاء. سيد درويش مثلا لم يتجاوز 32 عاما، بعد أن أحدث ثورة غنائية لا تزال تشكل حجر زاوية فى الإبداع الموسيقى الشرقى. الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى، 28 عاما، صاحب بيت الشعر «إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر»، الذى كان بمثابة الوقود الذى حرك الشعوب العربية لتنتزع حريتها فى ثورات الربيع. موتسارت غادرنا وعمره 32 عاما، وترك لنا كل هذا السحر. مارلين مونرو، 36 عاما. عاطف الطيب، 49 عاما. أحمد زكى، 55 عاما، وغيرهم من المبدعين الكبار. كثيرا ما نعتقد أن هؤلاء لم يكتمل بعد مشوارهم الفنى، وكان بداخلهم رسالة إبداعية لم يمهلهم القدر لبعثها إلينا.
الفنان يولد وبداخله طاقة إبداعية مرتبطة بمرحلة زمنية يقدم من خلالها كل ما لديه، ويأتى بعد ذلك الرحيل أو الانطفاء، ولهذا نجد أن البعض يتوهج فنيا فى سنوات مبكرة من عمره، وبعدها يخبو الوهج ويتضاءل الوميض، ويخفت البريق وهم على قيد الحياة، لأن الرسالة اكتملت.
الرحيل المبكر يلعب دوره فى تجسيد الأسطورة، وهكذا مثلا يبقى مارلين مونرو وجيمس دين وأسمهان وحليم فى ملامح الشباب الأبدى.
الفنان ينضج داخليا مع الأيام، هذه حقيقة، ولكن البعض لا يصالح دقات الساعة. سعاد حسنى مثلا أرادت أن يتوقف بها قطار الزمن، وكان جهاز الأنسر ماشين يجيبك بصوتها وهى تغنى: «خاللى بالك من زوزو»، كأنها تريد إيقاف زحف الأيام، حتى لا تغادر محطة زوزو. بينما أحمد زكى على الجانب الآخر تصالح مع الأيام، وعند رحيله كان قد اتفق على بطولة خمسة أفلام منها «رسائل بحر» و«المسافر»، الذى كان اسمه فى البداية «من ظهر راجل»، وكان يفكر أيضا فى أداء شخصية عبد الحكيم عامر وطلعت حرب وغيرهما. الفنان يقاوم بالفن، والخوف من انتهاء الرصيد يدفعه إلى المواجهة بمزيد من الأحلام الفنية، وهكذا مثلا أحمد زكى كان حريصا حتى اللحظة الأخيرة، على أن يتحدى اقتراب النهاية بالإعداد لمشروعات تعيده مجددا للوقوف أمام الكاميرا، رغم أن الأسد الشرس كان فى تلك اللحظات ينهش صدره بضراوة.
ماذا لو امتدت بهم الحياة. عبد الحليم مثلا كان سيصبح عمره 86 عاما، الراحل وديع الصافى تجاوز التسعين وظل يغنى حتى اللحظة الأخيرة. عبد الحليم لم يكن سيكتفى بالغناء، ولكنه كعادته سيتفاعل ويشاغب، وعندما يسألونه ماذا تنصح هانى شاكر نقيب الموسيقيين؟ سيجيبهم: بإقامة متحف لعبد الحليم، أسوة بأم كلثوم وعبد الوهاب، هل هانى معنا على الخط، ولّا نقول كمان؟!.
نقلا عن “التحرير”