عمرو منير دهب: مصر وجيرانها عبر الزمان

لست من العاشقين للألقاب تُطلق على البارزين في كل مجال، فالغالب أن يطغى قدْرٌ من التحيّز أو المبالغة على اللقب، ولكن نزعة الناس إلى تتويج وتدليل من يجلّونهم ويحبونهم عظيمة بما يصعب مقاومة سطوتها. هذا على سبيل التقديم العابر للاستشهاد بشعر أحمد شوقي في مقام قراءة الشخصية المصرية، والداعي إلى هذه المقدمة ليس فقط لقب “أمير الشعراء” الذي اشتهر به شوقي، وإنما الأبيات التالية التي قالها في حفل مبايعته أميرا للشعراء العرب.

وبعيدا عن هذا اللقب تحديدا وعمّا هو متعلق بقراءة الشخصيات الوطنية، فإنني على الصعيد النقدي من الوجهة الفنية الخالصة لا أري شوقي جديرا بإمارة الشعر العربي الحديث فحسب وإنما بإمارته على امتداد العصور منذ نشأته، وهي رؤية تغضب كثيرين ممن يرون تاج الشعر العربي أحق أن يعلو هامة أحد الشعراء الأقدمين، ويبرز المتنبي بوصفه المرشح الأظهر لأي لقب سيادي على مملكة الشعر العربي. ذلك حديث شجونه وشؤونه كثيرة، عرضنا لبعضها وقد نعود إليها بتفصيل جديد فيما يناسب ذلك من مقامات القراءة النقدية.

نرشح لك: 13 تصريحا للكاتب أحمد الصادق.. أبرزها عن كواليس فوزه بجائزة الدولة التشجيعية

 

أمّا أبيات شوقي، التي تشكّل بدورها مدخلاً عابراً إلى موضوعنا، فهي:

رُبَّ جارٍ تَلَفَّتَت مِصرُ تولي هِ سُؤالَ الكَريمِ عَن جيرانِه
بَعَثتَني مُعَزِّياً بِمآقي وَطَني أَو مُهَنِّئاً بِلِسانِه
كانَ شِعري الغِناءَ في فَرَحِ الشَر قِ وَكانَ العَزاءَ في أَحزانِه
قَد قَضى اللَهُ أَن يُؤَلِّفَنا الجُر حُ وَأَن نَلتَقي عَلى أَشجانِه
كُلَما أَنَّ بِالعِراقِ جَريحٌ لَمَسَ الشَرقُ جَنبَهُ في عُمانِه

المدخل جدّ عابر، خاصة بالإشارة إلى ما يريده الشاعر بالجار وما وراءه من غرضٍ تلفّتت مصر من أجله لتُولي ذلك الجارَ سؤالَ الكريم عن جيرانه. وإذ يحتفي “العروبيون” احتفاءً مستحقاً بالقصيدة التي تعبّر عن أشواق ومشاعر قومية فيّاضة تجاه العروبة، فإن الجدير بالملاحظة أن الشاعر يستخدم أيضاً تعبير “الشرق”، ليس في الأبيات السابقة ولا في غيرها من القصيدة فحسب وإنما في شعره بصفة عامة في سياق الحديث عن انتماء مصر، سواءٌ في الحقبة التي عاشها أو بصفة عامة فيما وراء تلك الحقبة من العصور. وإذ لا جدال في أن العرب جزء أصيل من “الشرق”، فإن الأخير تعبير أوسع في الانتماء تتداخل فيه الكثير من المكوّنات والمؤثرات وتتفاعل، وقد تضطرب إلى حد التصارع بما لا يقلّ عمّا يمكن أن يقع بين الشرق والغرب على صعيد المطارحة الحضارية الكبرى.

كانت مصر كدأبها فريدة في سيرتها مع الجيرة والجيران على امتداد التاريخ، والأظهر في تلك السيرة أن مصر قد أحسنت إدارة شؤونها مع جيرانها عبر البحار، وعلاقاتها مع أولئك الجيران عبر البحار لم تكن تبدأ دوماً بالتي هي أحسن، فقد كان قدر مصر كما رأينا أن تكون مغزوّة أكثر من أن تكون غازية، لكن مصر استوعبت جيرانها الغزاة وامتصت طاقتهم الحضارية بما أفادها، وعملت على ألا تقطع صلتها بأي منهم بعد أن يغادر، وبذلك لم يتسنّ لأي من الغزاة الجدد أن يطمس معالم وملامح سلفه كاملة، مطمئناً إلى أن آثاره هو أيضاً ستبقى في حوزة أمة تحسن أن تأخذ من تاريخ غزاتها ما ينفعها ولا تلفظه كاملاً فتضيّع بذلك من الخير والمنفعة الحضارية ما قد دفعت مقابله أثماناً باهظة من العناء والصبر.

يقول جمال حمدان، نقلاً عن الجزء الأول من “مختارات من شخصية مصر” الصادر عام 1994 عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، يقول: “بحكم موقعها المتوسط وموضعها الغني، كانت مصر إقليم جذب لا طرد، ومن ثم إقليم حركة داخلة لا خارجة. من هنا تعرضت لما رأينا من طوفان الموجات البشرية المختلفة سواء الهجرات الاستيطانية أو الغزوات الحربية أو التسلل السلمي. ولكن كما نعرف بقدر ندرة الأولى، بقدر تعدد الأخيرة. على أنه في أغلب الأحوال كانت هذه الموجات من أصول جنسية لا تختلف أو تبتعد كثيراً عن العرق المصري الأساسي. كذلك فبحكم نداء النهر وجاذبيته وثرائه، جنباً إلى جنب مع العزلة الصحراوية، كان من السهل الإغراء بدخولها ولكن من الصعب القبول بالخروج منها. لهذا كانت القاعدة تقريباً أن من دخلها لا يخرج منها في الغالب وإلا في النادر، لا يستثنى من ذلك سوى موجتي الهكسوس واليهود ثم عودة بعض القبائل العربية الإسلامية إلى الجزيرة شرقاً وخروج موجة الهلالية إلى المغرب غرباً… وعلى أيه حال فإن علينا عملياً أن نفترض أن كل عنصر دخل مصر وترك أثراً مهما تضاءل فهو داخل في تكوينها النهائي، لأن الدم – كالمادة – لا يفنى ولا يستحدث من العدم”.

هكذا، كأنما وسّعت مصر بحكم موقعها – الذي يصفه جمال حمدان بالعبقري – من مفهوم الجيرة منذ أقدم العصور، مستبقة بذلك مفهوم العولمة والمواطنة العالمية، ولكن بما يجعل مصر هي الإطار الذي يحتضن كل ما يفد عليه من الأمم وثقافتها والهوية الجامعة المتجددة التي تطل من خلال ذلك الإطار.

ولكن ماذا عن الجيران الأكثر التصاقاً بمصر؟ الجيران بما يقارب المعنى الحرفي تقريباً. في ثمانينيات القرن الماضي نشر كاتب خليجي مقالاً في صحيفة خليجية يذكر فيه أن من حظ العرب أن تكون مصر من بينهم. وبرغم أن البعض عدّ ذلك مغالاة لأن الأمر ليس مقتصراً على مصر وحدها، فالمنطق نفسه ينطبق كذلك على العديد من الدول والأمم العربية التي لها تاريخ عريق وتأثير دامغ على الثقافة والحضارة العربية، برغم ذلك فإن فكرة الكاتب كانت مفهومة من حيث تأكيد خصوصية مصر الحضارية المؤثرة والداعية إلى الاعتزاز من قبل “الأشقاء” – وليس الجيران فحسب – العرب.

ومع المزيد من الدقة والتخصيص نقرأ تأثير مصر الجارة على أكثر جيرانها التصاقاً من الناحية العضوية بلا منازع تقريباً: السودان. ظلت العلاقة مع السودان بالنسبة لمصر شديدة الخصوصية والفرادة على مدى التاريخ. فقد تقلّب السودان في المكانة بالنسبة إلى مصر من مجرد جزء من الجنوب المصري، إلى كونه أحد الغزاة الموغلين امتداداً في الشمال المصري، ثم عودته إلى شكل أو آخر من أشكال التبعية لمصر، وبين هذه الحال وتلك أشكال مختلفة من الانفصال أو الاستقلال. لكن السودان – عدا الحقبة التي توغّل فيها بوصفه غازياً نحو الشمال المصري – لم يكن يشكل خطراً استراتيجياً على مصر رغم أهمية عمقه الجنوبي الذي يتجلّى فيما وصفناه بما يصل إلى حدود الارتباط العضوي. نحو ذلك ما عبّر عنه محمد حسنين هيكل لنخبة من المثقفين السودانيين زارته في مكتبه أواسط التسعينيات الماضية وهي تشكو من إهماله السودان في مقارباته السياسية والفكرية، فردّ الصحفي المصري البارز بما مفاده أن الواقع السياسي والجغرافي والتاريخي هو ما يفرض مقارباته، وقد ظل ذلك الواقع يشير في العقود الحديثة إلى أن الاتجاه الأولى بانصراف مصر استراتيجياً لم يكن جنوباً بقدر ما كان شمالاً وشرقاً. وبغض النظر عن دقة هذه الخلاصة، فإنها كانت تعبّر بالفعل عن واقع، ولكنه ليس بالضرورة واقع الأهمية الاستراتيجية بالنظر إلى الإمكانيات التي من المحتمل أن تفيد مصر منها وإنما بحساب التعامل مع الأخطار القابلة للسيطرة عليها بأقل قدر من الانتباه، وذلك بطبيعة الحال قياساً إلى التعقيدات الاستراتيجية المتعاظمة باستمرار والمتوقعة من شمال مصر وشرقها إجمالاً.

بالنسبة إلى السودان ظلّت مصر متنفساً حيوياً لا غنى عنه على أكثر من صعيد، وربما الأدق أن السودان لم يحب أن يستغني عن ذلك المتنفّس تحديداً حتى إذا كانت البدائل متاحة أو على الأقل ممكنة، وذلك باستثناء محاولات – بعضها جاد – لم يكتب لها نجاح يذكر. أحبّ السودانيون لا ريب على الصعيد الشعبي المتنفّس المصري تحديداً، وشكّل ذلك التفضيل الشعبي من قبل السودانيين لمصر على صعيد قضاء حوائج الحياة الأساسية تحدّياً حتى للأنظمة السياسية السودانية القوية فيما يتعلّق بإيجاد متنفّسات حيوية بديلة يقضي من خلالها السودانيون مصالحهم في الصحة والتجارة والتعليم وغير ذلك.

هل كان من حسن الطالع إذن للسودان أن يجاور مصر؟ نعم لا ريب بالنظر إلى ما أوردناه عن المتنفّس الجاهز دوماً لاستقبال وتلبية مصالح الجار على المستوى الشعبي في كل صعيد تقريباً. ولكن بالنسبة لقوة مصر الإقليمية الطاغية، فإن تلك الجيرة لا ريب كانت اختباراً قاسياً على المستوى السياسي السوداني من الصعب القول بأن أيّاً من الأنظمة في السودان قد تجاوزه بنجاح يذكر.

إلى ذلك، وعلى الصعيد الشعبي، شكّلت عراقة وعمق الحضارة “المدينيّة” المصرية تحدّياً للمجتمع السوداني الذي يغلب عليه الطابع البدوي في أنماط الحياة بشكل طاغٍ، فكانت المقارنة بين الشعبين على مختلف أصعدة الحياة المدينية والحال كتلك خارج إطار المنافسة لصالح المصريين، وذلك بالنظر إلى طبيعة التنافس الحضاري لا سيما حديثاً، وبعيداً كذلك عن الاستعدادات الفطرية الفردية التي لا علاقة لها بمجتمع حضري أو بدوي الأصول ومن الممكن أن توجد في السودان وفي مصر على السواء.

للتواصل مع الكاتب عبر الإيميل التالي ([email protected])