عمرو منير دهب
“ما من كاتب تعرض لتاريخ مصر أو حضارتها دون أن يصرّ في إلحاح على عنصر الاستمرارية في كل مقوماتها ومقدراتها، ابتداءً من الأرض إلى الناس، ومن الجنس إلى الاقتصاد. ومن أعلى النظم السياسية والاجتماعية إلى أصغر دقائق وتفاصيل العادات والتقاليد اليومية، بل والأمثال والمأثورات الشعبية، إلخ. وبغير حكم مسبق، فإن المهم هو مدى صحة تلك المقولة الأساسية، إلى أي حد بالدقة تذهب هذه الاستمرارية، وعند أي نقطة بالضبط يظهر نقيضها الانقطاع”.
ذلك مدخل جمال حمدان لقراءة الاستمرارية في الشخصية المصرية كما يرد في بداية الفصل الثالث بعنوان “الاستمرارية والانقطاع في الشخصية المصرية”، نقلاً عن الجزء الثالث من “مختارات من شخصية مصر” الصادر عام 1996 عن مكتبة مدبولي بالقاهرة. يواصل حمدان: “ولكي نضع معادلة الاستمرارية–الانقطاع في ميزانها الصحيح، ونقيمها على نصابها الدقيق، لا بد أن ندرك أولاً أنها على بساطتها الأولية والأساسية معادلة مركبة معقدة متعددة الحدود والأطراف، تحت السطح وعند التفصيل. فهي إذ تشمل الأرض والناس ابتداءً، فإنها تضم النواحي المادية واللامادية جميعاً، وعلى حد سواء. وهي إذ تضم الجوانب المادية واللامادية، فإنما تطوي الحضارة والثقافة معاً، وعلى السواء، الأولى للأولى، والثانية للثانية، أعني الحضارة للماديات، والثقافة للاماديات”.
بعدها يعمد المفكر الكبير إلى تحديد بالغ الدقة فيما يخص الاستمرارية والانقطاع: “أيضاً، إذا كان لنا أن نستبق التحليل بقليل، فإن لنا أن نضيف أن الاستمرارية تتركز خصوصاً في النواحي المادية. سواء من الأرض أو الناس، بينما أن الانقطاع ألصق بالجوانب اللامادية. بصيغة أخرى أكثر تحديداً ووضوحاً، الاستمرارية للحضارة أساساً، والانقطاع للثقافة بالأساس”.
نواصل الاقتباس عن العمل الرائد لجمال حمدان في الفقرة التالية التي ينفذ فيها إلى مزيد من التحديد والدقة في تسمية العوامل المؤثرة في تطوّر مصر وشخصيتها، ومن ثم في سيرتها مع ما أطلق عليه معادلة الاستمرارية–الانقطاع: “فإذا ما انثنينا لنستعرض شريط تاريخ مصر الطويل الحافل الزاخر استعراضاً شاملاً محلقاً من هذا المنظور، فلعل أكبر وأخطر نقط التحول وعلامات التطور التي تبرز فيه أن تنحصر في أربع نقاط أساسية. أولاها بالطبع اكتشاف الزراعة، وبدء الحضارة نفسها في فجر التاريخ، وثانيتها تتأخر طويلاً جداً إلى الإسلام والتعريب، وقد تلى بعد فترة قصيرة نسبياً نقطة تحول التجارة إلى طريق الرأس، إلى أن نصل أخيراً إلى الحضارة الغربية الحديثة ودخولها على النحو الذي نعيشه ونعرفه اليوم، لا كأكبر وأوقع حقيقة في واقع وصميم حياتنا المعاصرة، ولكن أيضاً كأخطر وأعمق انقطاعة في تاريخنا ووجودنا جميعاً”.
نختتم الاقتباس الطويل الهام عن المرجع نفسه بالفقرة التالية التي تبدو كما لو كانت تلخص رؤية المفكر الكبير لـ”معادلة الاستمرارية–الانقطاع” المركبة المعقدة متعددة الحدود والأطراف كما يصفها: “كل واحدة من هذه الرباعية كانت إذن انقلاباً كاملاً وانقطاعاً جوهرياً ثورياً مثيراً ومؤثراً. ومن مجموعها نحصل بطريقة ما على نوع التطور بطريق الثورة Evolution by revolution . ولكن بالمقابل، ففي ظل الترامي الشديد للوراء التاريخي لمصر، فلقد تبدو تلك الثورات في مجملها غير متعارضة مع الاستمرارية العامة. وهناك إذن في معنى ما ثورة بطريق التطور Evolution by revolution ، وفيما بين هاتين المعادلتين العريضتين جداً يستقطب تاريخ مصر (العالم) بصفة عامة”.
ذلك تناول دقيق لا ريب لتلك السمة التي شغلت بال من عرضوا لتاريخ مصر وحضارتها بالدراسة كما يشير جمال حمدان نفسه، والجميل أن حمدان لا يقف عند تلك السمة على أحد جانبيها (الاستمرارية) مستغنياً به ضمنياً عن نقيضه (الانقطاع)، وإنما يعرض الصفتين المتناقضتين باحثاً في دواعي كل منهما ومنوّهاً – كما نرى في الفقرة الأخيرة المقتبسة – إلى أن تلك العلاقة لا تتسم دوماً بالتناقض، ونضيف من جانبنا بأنها أحياناً قد تكون علاقة تعاضدية، وتحديداً من حيث أن الثورات (المرادف الأكثر حدة لكلمة الانقطاع) لا تبدو دوماً متعارضة مع الاستمرارية العامة وإنما مفصل تاريخي يفضي إلى مرحلة مختلفة ولكنها ليست منبتة عن سابقاتها، وذلك أعمق ما يذهب إليه جمال حمدان فيما يتعلق باستمرارية الشخصية المصرية بحسب ما نراه من تأويل لرؤيته على هذا الصعيد.
التحدي الأصعب لدى دراسة الاتصال في سيرة أية شخصية وطنية عبر القرون يكمن في صعوبة استخلاص التفاصيل الدقيقة لحياة تلك الشخصية الوطنية في كل مرحلة من مراحل تاريخها، وهي صعوبة تصل إلى حدود الاستحالة بالنظر إلى أن التاريخ يخضع لعمليات تجميل وتشويه على السواء بحسب مرجعيات وأهواء من يقوم بصياغته، حتى إن الحقيقة المطلقة تكاد تكون وهْماً عندما يتعلق الأمر بالتنقيب في الدوافع وراء هذا الحدث وذاك من الأحداث الجسام، بل إن ذات الأمر يطال كثيراً من الوقائع التاريخية العظيمة نفسها، ليس من حيث مصداقية وقوعها ابتداءً ولكن بصورة أساسية من حيث حجمها وتداعياتها على ما حولها، وما يطال الأحداث من التحريف يطال صانعي تلك الأحداث من البشر أضعافاً كثيرة. وهكذا، فإن كلمة مثل “صناعة التاريخ” لن تقف عند حدود الأحداث والشخصيات العظيمة التي تصنع التاريخ بإنجازاتها، وإنما تتخطاها لتشمل أولئك الذين يكتبون التاريخ، وكلٌّ يزعم الموضوعية كما تتبدّى له من نافذة مبادئه الشخصية، فضلاً عن نزعاته وأهوائه الخاصة.
على كل حال، لن يكون عسيراً أن نخلص إلى أن الشخصية المصرية واحدة من أكثر الشخصيات الوطنية إغراء بنعتها بالاتصال أو الاستمرارية على مدى التاريخ، وذلك بطبيعة الحال دون تجاوز التحفظات التي أشرنا إليها سابقاً بصفة عامة. وعندما نأخذ في الاعتبار إشارة جمال حمدان إلى أن “الثورات في مجملها غير متعارضة مع الاستمرارية العامة”، فإن تلك الإشارة تبدو بصورة أكثر دقة معنية تحديداً بالتطور في الحضارة المصرية، في حين تتجلّى خصوصية استمرارية الشخصية المصرية في قابليتها لمعاودة الاتصال/التواصل الحضاري الرفيع مع كل بزوغ لفجر مرحلة تاريخية جديدة زاهية وذلك انطلاقاً من آخر نقطة انقطع عندها مجد المرحلة الزاهية التي سبقتها لتشكل هذه الأخيرة مصدر إلهام رفيع بصرف البصر عن طبيعة السلطة السياسية والثقافة السائدة في هذه الحقبة وتلك.
الأهم، وبقدر ما تمكن المبادرة بالجرأة في التعميم بما يشمل مراحل الكمون الحضاري شحيحة المصادر التاريخية في العادة، فإن استمرارية الشخصية المصرية تتجلّى في أنها تعاود البروز مع ثوراتها الحضارية في كل مرحلة ليس فقط باستلهام المرحلة الزاهية التي سبقتها وإنما كذلك بما يشي بأن تلك الشخصية كانت متدفقة بالحياة وأن الحيوية لم تنقطع عنها خلال مرحلة الكمون أو حتى الانحدار الحضاري.
وبالحديث عن الاستمرارية بصفة عامة، فإنها تبدو أكثر تحققاً في الشخصيات الوطنية ذات التاريخ البدوي العريق، وأشهرها لا ريب على النطاق الإقليمي منطقة شبه الجزيرة العربية على امتداد تاريخها ورقعتها الجغرافية، فحتى عند اقتحام الحضارة الحديثة لمنطقة الخليج ومجتمعاته اقتحاماً عنيفاً لم تبارح الشخصية الوطنية هناك سيرتها النفسية وهي تصدر عن طبيعة بدوية عميقة ظلت محل اعتزاز وتقدير.
ولكن بالحديث عن سيرة الشخصية الوطنية مع الحياة الحضرية فإن تحدي الاتصال/الاستمرارية يبدو أكثر تعقيداً وصعوبة، وذلك بالنظر أساساً إلى الحياة الحضرية التي لا تستقر على نمط واحد وإنما تختلف اختلافات عميقة باختلاف العصور استناداً إلى الحضارة السائدة، وهي مسألة كما هو معلوم تخضع لتأثير وقائع جسام تفرض تغيرات حادة في طبيعة وشكل الحياة مع كل مرحلة، وهو التحدي الذي برزت فيه الشخصية المصرية بوصفها واحدة من الشخصيات الحضرية الأكثر ثباتاً وتميّزاً في الملامح على اختلاف العصور، بقدر ما يجوز التعميم على صعيد بهذا المستوى الخطير من التعقيد.
للتواصل مع الكاتب من خلال البريد الإلكتروني التالي ([email protected])