حكى لي صديقي المهندس، أن كان يا مكان، في ركن أخر من العالم المتقدم داخل دولتنا العظيمة، بعيدا عن احتفالات قناة السويس، وما يصحبها من أوبريتات، تحديدا في أحد شوارع قاهرة المعز التي مازلت تحتفظ برونقها، تقع أحداث هذه القصة داخل أحد فروع أحد الشركات متعددة الجنسيات المعروفة لدينا بالـ”مالتي ناشونال”، قصة وجدت فيها فائدة لأولي الألباب.
القصة باختصار، إنه في أحد القطاعات الفنية التي تعد الأكثر حساسية في الشركة، لأنها ببساطة المسؤولة عن مستوى الجودة المبني عليه سمعة الشركة أمام عملائها، والتي تشكل الفارق بينها وبين منافسيها، وتجعل تقاضيها أضعاف المبلغ المادي لخدمة يؤديها المنافسون مبررا، وصل مدير الشركة شكوى من أحد الأشخاص، يتهم فيها الشركة بأنها ظالمة، لأنهم لم يقوموا بتوظيفه في وظيفة تقدم لها.
كانت رسالة هذا الشخص بعيدة كل البعد عن المهنية، تتهم الموظفين بأنهم يقومون بتوظيف أقاربهم، والذي يعد تجاوز غير مقبول يسمح للشركة بعدم الرد على رسالته، خاصة أن الهيكل الوظيفي للشركة متوفر على موقعها مع نبذة عن خلفية كل موظف، ويمكن من خلال ذلك الهيكل الجزم بأنه لا توجد صلة قرابة بين أي من موظفي الشركة جميعا، وليس هذا القسم فقط. لكن لأن الشركة ترى أن سمعتها أهم من كل شىء، وأن تلك السمعة يجب الحفاظ عليها مثل أصول الشركة، تم الرجوع للمدير التقني، الذي يقوم باختبار المتقدمين لهذه الوظيفة، لمعرفة أسباب عدم قبول هذا الشخص للوظيفة، وحيثيات تعيين شخص أخر بدلا منه.
أكد المدير التقني أن التوظيف يقوم على عدة اختبارات تقنية، والتي تعد المقياس الحقيقي، وليس الشهادات أو المؤهلات، لأن تجربة الشركة مع سوق العمل المصري أثبتت أن الشهادات أو سنوات الخبرة لا تعني شيء، خاصة في ذلك الجزء التقني. ثم شرح المدير التقني كيف يتم تقسيم الاختبار لثلاثة مراحل، أحدها يقوم بها المتقدم للوظيفة عبر شبكة الإنترنت من منزله، دون الحاجة للحضور، لتصفية المتقدمين. ولأن التجربة أثبتت أن بعض المتقدمين قد يلجأ لمساعدة خارجية، يتم تصفية المتقدمين مرة أخرى من خلال اختبار أخر يقوم به المتقدم للوظيفة في الشركة، للتأكد من مستواه الحقيقي. يتبعه اختبار اخر للقدرات واللغة الإنجليزية الضرورية لتحصيل المستجدات في هذا المجال التقني. ثم يتم إجراء 2 أو 3 مقابلات شخصية للمتقدم، لتقيم نقط الضعف والقوة في شخصيته، وقدرته على العمل وسط فريق، قبل أن يتم التعيين.
ثم قام المدير التقني ذو السمعة الحسنة بشرح أهمية أن امتلاك المتقدم للوظيفة للمهارات الفنية المطلوبة، لأن ذلك يؤثر بشكل كبير على أداء الفريق ككل، الأمر الذي يجعل من اختيار أفضل متقدم أمرا ملزما لا رفاهية، خاصة أن الخطأ الواحد قد يكلف الشركة مئات الآلاف من الدولارات، وكثير من العملاء. وأن عملية تعيين شخص واحد قد تحتاج لـ5 أو 6 شهور في بعض الحالات بسبب ندرة المؤهلين. ورغم كل ما وضحه، طلب المدير أن يتم مراجعة الاختبارات التي قام بها الشاكي، فتبين أنه لم ينجح في المستوى الثاني من الاختبار، وإنه رغم سيرته الذاتية المعقولة، لا يتمتع بالإمكانيات المطلوبة.
تُرى، ماذا فعلت الشركة بعد كل ذلك؟ قاموا بإرسال الاختبار والنسخة التي قام المتقدم بالإجابة عليها في الشركة، مرفقة بنسخة من الإجابة النموذجية، مع توضيح الخطوات التي تتبعها الشركة في التعيين. بعد ذلك قرروا أن يقوموا بتغيير الاختبارات مرة أخرى، لأنهم اضطروا أن يرسلوا لهذا الشخص الاختبار والإجابة النموذجية، والذي يجعل إمكانية تسربه موجودة، ويخل بنظام التقييم لديهم، حتى لو كانت فرصة ذلك أقل من 1%، ولن يعرف عملائهم عنها شيئا.
ما الذي نتعلمه من هذه القصة بجانب أن الحصول على وظيفة في هذه الشركة ليس أمر سهلا وأن اختباراتهم مبالغ فيها؟ أن الشركة الناجحة، التي تستطيع أن تربح ملايين الدولارات سنويا بأقل من 50 موظف، اهتمت لرسالة اتهام من شخص شاكي، غير مؤهل ولديه ضغينة ضد الشركة، يتحدث بطريقة غير لائقة، وكلفها ذلك الاهتمام ساعات غالية في مناقشة الشكوى، وفي وضع الاختبار الجديد.
هذه الشركة ناجحة وهي تعمل في سوق العمل المصري، تتلقى طلبات توظيف من أشخاص عندهم استعداد للغش للحصول على وظيفة. تعاني بسبب موظفي مكتب العمل المتعنتون، وموظفي الضرائب الذين لا يصدقون أنهم لا يتلاعبون، ومن كل آفات سوق العمل المصري التي نعرفها جميعا. قد يكون هناك بعض المؤهلاين في الشركة بكل تأكيد، وبالتأكيد أيضا هناك نسبة من الفساد وعدم الكفاءة في بعض القطاعات، لكنه بكل تأكيد ليس في القطاعات التي تؤثر بشكل مباشر على حفاظها على جودتها.
إذا كنت لم تلمس بعد سبب ذكري هذه القصة في تلك الأجواء، فسألفت نظرك إلى دولة كبيرة ذات تاريخ عظيم، من المفترض أنها ملك لشعبها وليست ملك لقادتها، قامت بمشروع قومي تكلف 8 مليار دولار جمعتهم من جيوب المواطنين بصورة مباشرة، دون أن تنشر حتى الآن دراسة جدوى واحدة، لتترك الجميع يتخبط بين معلومات عشوائية مبنية على اجتهادات، يحدد كل منهم موقفه منها على حسب اتجاهه الوطني وليس الأرقام والمعلومات.
عن دولة تكيد نقادها، يتوعدهم أحد أبنائها العسكريين “بتغطيس” المشككين قهرا في المشروع في قاع القناة ليتأكدوا من عمقها. عن دولة تقيم أحتفالات تتكلف ملايين لمنتج لا يحتاج إلى تسويق دون ذكر سبب واحد منطقي لهذا الاحتفال الذي تبرع له المستثمرين تحت الضغط سوى أن يشعر قادتها بالفخر ويفرح الشعب لمدة يوم، كما لو كانت الدولة أكثر مراهقة من المواطن.
وفي النهاية يقولون لنا بكل فخر وانتشاء أن المصري عندما يريد يستطيع أن يفعل المستحيل، دون أن يأتي إلى ذهنهم التعقيب المنطقي لهذا التصريح، لماذا يريد فقط المصري تحقيق ما تريدوه أنتم وليس ما يحتاجه هو.
هل تعلم لماذا تحقق تلك الشركات نجاحا كبيرة مقارنة بأداء دولتنا وشركاتنا المملوكة للدولة؟ ببساطة لأن لديها أصحاب حريصون على أموالهم، بينما دولتنا بلا صاحب.