في مقدمة كتاب “المصريون” لقاسم أمين، الصادر ضمن سلسلة كتاب الهلال عن دار الهلال بالقاهرة عدد سبتمبر 1995 بترجمة قاسم أمين الحفيد، يقول الدكتور رؤوف عباس: “ونعى داركور (دوق داركور duc d’Harcourt) على الفلاحين حياتهم البائسة التي جعلتهم يقبلون العيش عند منزلة العبيد، يكدون ويكدحون من أجل صاحب الأرض، مما جعلهم يتمرسون على الخنوع ويفقدون الحس الوطني. وعندما انتقل إلى الحديث عن الجيش المصري رمى المصريين بإهمال التربية العسكرية التي لم تتوافر لديهم الخبرة بها لكونهم فلاحين محدودي الطموح يفتقرون إلى روح المغامرة، مما جعل الإنجليز يحرزون نصراً سهلاً على الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي. وفي الفصل الذي تناول فيه بالحديث الطبقات الاجتماعية في مصر، لاحظ داركور تميع الطبقات الاجتماعية في مصر وعدم وضوحها، وعزى ذلك لغياب أرستقراطية وراثية مصرية عريقة تحفظ للمجتمع تقاليده الاجتماعية على نحو ما حدث بأوروبا، وأرجع ذلك إلى استبداد الأجانب بالمصريين وإلى نظام حيازة الأراضي الزراعية في مصر الذي لم يسمح بوجود طبقات واضحة المعالم”.
رد قاسم أمين في كتابه الصادر بالفرنسية عام 1894 على أفكار وآراء دوق داركور، وقد قال أمين في مقدمة كتابه: “في هذه السطور القليلة رد مختصر على الأفكار التي سجلها دوق داركور عن المصريين… ولم أستطع نقل كل التفصيلات المضللة التي وردت في كتابه لأن هذا للأسف يتطلب وقتاً. وحتى إذا وجدته فإنني لن أستطيع إلا أن أضع تفسيرات على هامش كتابه. وإني حريص أن أفند القواعد العامة التي أراد بها تفسير ما أورده من وقائع. ولا يهمّني أن تكون بلادي الآن في حالة تأخر، فكما مرت أوروبا بهذا التأخر فمصر أيضاً سوف تمر به، ولكن الذي لا أقره عليه هو قوله: بأنه مقضي علينا بأن نستمر ولن نخرج من هذه الحالة المنحطة أبداً. وإنني وأنا أعترف بالعيوب سأحاول أن أجد لها تفسيراً ومبرراً. وأطلب المعذرة من إخواني الأوربيين إذا كنت قد هاجمتهم في بعض الأحيان، وإني أؤكد أن هذا لم يقلل من تقديري لهم… ولكن كان يجب عليّ أن أقارن بين العادات فأظهر الحسن منها والسيء”.
المصريون
كتابات المستشرقين عن الشرق ومجتمعاته وطباع ناسه ظلت محل شد وجذب من قبل مفكري الشرق، وهي ظاهرة ليست غريبة بحال، فتعليق أي مفكر على طباع وعادات مجتمع لا ينتمي إليه لا يمكن أن تمرّ مروراً عابراً، سواء كان الوقوف عليها بالرضا والتأييد أو السخط والاستنكار من قبل أي من الطرفين، ولعل الحالة الأخيرة كانت هي الغالبة في الرد على آراء وانطباعات المستشرقين تحديداً على تباين الحقب واختلاف موضوع الدراسة في المجتمعات الشرقية.
سنقف على بعض جوانب كتاب قاسم أمين بتفصيل أوفر في مقام قريب إن شاء الله، ولكن ما يعنينا في هذا السياق هو ما أورده الدكتور رؤوف عباس في تقديمه لطبعة الكتاب التي أشرنا إليه، وتحديداً ما ورد بشأن رأي دوق داركور عن الطبقات في المجتمع المصري، وتحديداً الأرستقراطية.
بمنأى عن البعد السياسي الذي كان أصل المصطلح على الأرجح، فإن التداعيات الاجتماعية للأرستقراطية هي التي باتت غالبة في الأذهان، وهي ما عناه دوق داركور على كل حال كما ورد في إشارة الدكتور عباس. غير أنه من المهم الالتفات إلى أن الطبقة الأرستقراطية بالتعريف الدقيق لا تعني بطبيعة الحال مجرد الطبقة الأغنى في المجتمع، وربما كان مصطلح الطبقة المخملية أقرب إلى استيعاب المراد بالأرستقراطية عند سحب المصطلح خارج سياقه الأوروبي الذي نشأ فيه.
المصريون
في كل الأحوال، لا يعتبر غياب الأرستقراطية عيباً في ذاته، إلا بمقاييس زمان ما وفئات بعينها هي المستفيدة من تواجد تلك الطبقة في المجتمع. غير أن الجدير بالانتباه أن ملاحظات دوق داركور في هذا المقام – وهي لا تخلو كما يبدو من انفعال لم يبارحه ضد المجتمع الشرقي الذي يدرسه – كانت تتعلق بما ورد على أنه “تميّع الطبقات” أكثر من كونه تحسّراً أو شجباً بسبب غياب الطبقة الأرستقراطية تحديداً.
لم يكن دوق داركور عالماً متخصصاً في الدراسات الاجتماعية، وعليه فإن ملاحظته الضمنية – بحسب ما يمكن استنتاجها من إشارة الدكتور رؤوف عباس – حول أهمية وجود تراتب طبقي عريق لا تستند إلى رؤية أكاديمية بقدر ما تبدو رؤية شخصية من أرستقراطي فرنسي نبيل زار مصر وكتب عن أهلها في نهاية القرن التاسع عشر.
بصرف النظر عن جدوى أو حتى حتمية وجود الطبقات في أي مجتمع، وبعيداً عن التداعيات السلبية في أغلب الأحيان لدى العامة فيما يتعلق بالطبقة المخملية بالمعنى العريض لدى أي مجتمع، فإن ما نود الإشارة إليه هنا هو أن الحكم على الطبقات – كما هو الحال بصفة عامة – يبدو مقيّداً بصورة واضحة بأكثر من مرجعية نسبية: الزمان ابتداءً، ثم خصوصيات المكان قياساً إلى محيطه المجاور وامتداداً إلى ما وراءه من الأماكن والمجتمعات بلا حدود سوى أطراف العالم قاطبة.
المصريون
باستصحاب نسبية الحكم تلك في الاعتبار، لن يكون من السهل القول بأن المجتمع المصري حينها وفيما بعد كان يخلو كليّةً من الطبقات أو إن طبقاته كانت مميّعة تماماً، وهذا مجدداً ليس حكماً لصالح المجتمع المصري أو ضدّه في هذا الزمان أو ذاك قدر ما هي قراءة لواقع معقّد لا يمكن تناوله بمعزل عن النسبية وإصدار أحكام قاطعة عليه بقلب مطمئن بأية حال.
بذلك، لا غضاضة من القول بأن الطبقة المخملية – بالمعنى العريض للكلمة كما أشرنا – ظلت موجودة في مصر بتقاليد خاصة قياساً إلى ما سواها (دونها؟) من الطبقات وليس استناداً إلى التقاليد الأرستقراطية العريقة في أي من المجتمعات الأوروبية أو حتى الشرقية المجاورة. هذا باعتبار أن من يحكم مصر، على مرّ العصور، كان يشكل حياته على الأرجح باعتباره جزءاً منها وليس محتلاً عابراً، وبذلك فإن طبقاته ليس من السهل بترها من بنية المجتمع المصري الذي ظل يتعامل معها بوصفها جزءاً عضوياً من المجتمع، سواءٌ رضي بذلك الجزء من باب التكيّف مع الأمر الواقع أم أضمر له قدراً من الرفض أو حتى الضغينة.
وللوقوف على المراد بنسبية القياس هنا، نعرّج على نموذج مقابل شديد التضاد وشديد القرب في وقت معاً وهو السودان الذي يمكن القول – ببعض الجرأة في إطلاق الحكم – بأنه لا يزال حتى اليوم خِلْواً من الطبقات، ذلك مع أهمية تذكّر أن المال وحده لا يشكل عاملاً حاسماً في تعريف الطبقة ما لم يسهم في تأسيس تقاليد مستقلة داخل الطبقة تفصلها عن غيرها، وتحديداً عمّا دونها من الطبقات.
توجد طبقة مخملية لا ريب في مصر ذات تقاليد خاصة في الطعام والشراب والتعليم والسلوك، وإن ظلّت مكونات وملامح ومؤثرات تلك الطبقة تتغيّر بتغير الحقب. في حين أن السودان تحديداً – وغيره من المجتمعات التي تغلب عليها الروح البدوية في المحيط العربي والإقليمي بصفة عامة – ظل خلواً ليس فقط من الطبقة الأرستقراطية، بل حتى من الطبقة المخملية على اعتبار ما أشرنا إليه من أن مخملية الطبقة لا يمكن أن تُختصر بحال في المال وإنما تشمل ما يمكن أن يؤسس له المال من تقاليد مستقلة في المأكل والمشرب والتعليم والعمل والسلوك.