قطار الإسكندرية المعلق، وتعيين رئيس نادي الزمالك إماما وخطيبا لمسجد، مثالان ظهرا هذا الأسبوع لأخبار “مفبركة” مختلقة تذكرنا بجرائم الإعلام في حق مصر، حيث أصبح كل شيء ممكنا، إلا السعي وراء الحقائق. أراد جمهور الإعلام أن يسخر من الأطباق الماسخة التي يقدمها الإعلام، وأن “يعلم” عليه، وها أنا أدفع الثمن مرتين، مرة قارئا مسكينا، ومرة منتميا للمهنة التي أكرهها.
بدأ الأمر كله بكتاب ألهب حماسي، قرأته وأنا في ثانية اعدادي، بعنوان “مغامرات صحفي في قاع المجتمع المصري”.
الصحفي الراحل ظهر في الكتاب فارسا يبارز عصابات خطف الأطفال، وتجار المخدرات، وبلطجية التسول. كان يتنكر ليخدع المجرمين، ويوثق له المصور الشهير فاروق إبراهيم مغامراته بالصور، ثم يكتب هو تقاريره الساخنة، التي حرمتني النوم في غرفتي الريفية، الموغلة في البعد عن العاصمة، وأكاذيبها الصريحة أو المتنكرة.
يومها اتخذت أغبى قرار في حياتي، أن أكون صحفيا. ولم أتردد في اختيار الدراسة بكلية الإعلام، حيث خضعت أربع سنوات لعملية تسطيح ممنهج، عانيت فيها من المناهج الهلامية، والنظريات البيزنطية، وخرجت مثل كل زملائي بعد أربع سنوات لا أعرف شيئا عن المهنة، ولا عن ظروف العمل بها.
في التسعينيات مشيت المنيا وأسيوط على أقدامي في أزهى عصور الإرهاب، تحاورت مع أعضاء الجماعة الإسلامية، نجمة الجماهير وقتها، وطفت قرى الفيوم المعدمة بحثا عن أسباب التشدد. دققت باب مؤسس جماعة الشوقيين، ولم أظفر بلقاء الرجل، الذي لقي مصرعه في مطاردات الدم والضياع بعد ذلك. كنت أعمل في “الأهالي” لأنني اتخذت قرارا لا رجعة فيه: لن أخدم نظام مبارك مهما كان الثمن، وبدأت التغريبة، التي أعادتني اليوم إلى المربع الصفري.
من غرفة الأخبار في بي بي سي، حيث الولاء للمدير، الذي كان مصريا وقتها، يأخذك بعيدا، إلى لندن على الأقل. وحيث مجرد الرد عليه يعني أنك تقترب من الفصل. “ملفك الوظيفي به مشكلة تأمينات، لن نجدد عقدك”. هكذا أبلغني مدير المكتب الإقليمي بعد دقائق من حوار لي مع المدير المصري وقتها.
في البحرين اكتشفت بعد وصولي بأيام أنني أعمل في صحيفة صدرت لتهاجم الأغلبية الشيعية، باسم الملك. واكتشفت هناك لأول مرة في حياتي أنني مسلم سني، لكن الدين لا يمكن أن يتحول إلى مهنة، فرجعت بعد أسابيع.
عايشت الشهور الأخيرة من عصر مبارك، أكبر مجرمي العصر الحديث في حق مصر، ورأيت الصحافة تنافقه إلى درجة فرض أخبار “الهانم” على الصفحة الأخيرة بالشروق، الجريدة الخاصة الناهضة وقتها. ومنع رئيسي مقالا لي، يدين حرق بيوت البهائيين في سوهاج، لأن “المناخ لا يسمح”.
شاهدت سيرك البيت بيتك وحالة حوار، واللاهثين وراء جمال مبارك، الذين يلهثون الآن وراء الرئيس السيسي. كان أبناء مهنتي هم أقبح ما في اللقطات الأخيرة لحسني مبارك، المجرم في حق بلده وناسه.
وعندما أشرق الأمل من ميدان التحرير، رفضت مهنتي الهدية. مثل كل العبيد، رفضت الصحافة الحرية الناجمة عن أشواق الشباب، وفوضى الدولة التي شاخت فتركت الحبل على الغارب، وسط ذهول الجميع من زئير الميادين. بحثت الصحافة عن السلطة التالية، لترتمي تحت قدميها، كالعادة. فقدنا بسرعة هوامش مبتكرة للحرية، وأساليب جديدة للتغطية، بدأت تمزج بين قواعد الصحافة التقليدية، ولغة المواقع الاجتماعية، و”هري” الشباب.
الفضائيات التي ازدحمت بوجوه شابة غير معروفة في الشهور التالية لهبة يناير، لديها الآن قوائم سوداء، بضيوف غير مرغوب في وجوههم. والصحف التي كانت تتابع أخبار الناس، اقتصرت على أخبار الوزير، وقفشات محلب، و”سيلفي” السيد الرئيس.
أحداث كثيرة ومهمة لم يسمع عنها المصريون في الفضائيات، ولم تنشرها الصحف والمواقع، ولن تنشرها. وقريبا ستنضم الموجات، وتنطفئ صالات التحرير المضيئة على الفاضي. قريبا ستتحول مهنتي إلى برنامج “ماما نجوى” من الحجم العائلي، لكي يكفي 90 مليون ”بقلظ”. لا حاجة للمعلومة، نحتاج إلى التوجيه، والمعنويات العالية، والحماس. وكلنا، كلنا، يجب أن نكون على قلب رجل واحد، في الرأي السياسي، والموقف الانتخابي، والهتاف لمصر من نفس المقام الموسيقي. كلنا سوف نسمع خطبة جمعة واحدة، مثل موضوع التعبير، والقادمة ستكون بعنوان قناة السويس فتح لنا.
إنها الجنة، ولا دور في الجنة لصحفي.
أكثر من ذلك، الإعلام أصبح الآن مقصرا في مواجهة الإرهاب، بل أصبح مخدّما عليه أحيانا دون قصد”، كما قال رئيس التليفزيون قبل أيام.
بعد سنوات من العمل بالمهنة، صادفت مصور الكتاب، فنان الصورة الصحفية الراحل فاروق إبراهيم، وشاءت الأقدار أن أعمل معه. وفي مطعم برستيج بالمهندسين كنت فخورا وأنا أقول له: كتابك مع زميلك الصحفي الراحل كان السبب في دخولي المهنة.
وأغرق الراحل الجميل في الضحك، وسألني: انت بتتكلم بجد؟ ما فيش في الكتاب قصة واحدة حقيقية. كله تأليف. كل أسبوع كان يقول لي: المغامرة الجديدة عن كذا. نطلع الشارع نعمل كام صورة، وهو يختفي في لوكاندة في وسط البلد، ويرجع لنا بالحكاية الجديدة بعد كام يوم.
رحل فاروق إبراهيم وترك لي أجمل ضحكة، وأخطر اعتراف: ولا حكاية من دول حصلت.
قالها وهو يخرج عن الهزار ليسألني: هو انت عبيط؟ أول مغامرة كانت الخدمة في البيوت، وأول صفحة في الكتاب فيها صورة الصحفي المتنكر، ومعاه صاحب البيت في الروب دي شامبر، وانا صورتها ازاي بقى؟ ما تعديش على واحد ذكي زيك يعني.
لم أكن ذكيا، كنت ضحيتهم كلهم، من الرجل الذي أصبح صديقا عائليا، فاروق إبراهيم، إلى مصطفى أمين صاحب المقدمة التافهة للكتاب، والمدرسة الصحفية التي شاركت في مؤامرات السياسة، وروجت لأكاذيب الجريمة والجنس والدجل لترفع توزيعها وتزيد نفوذها، لكنها لم تعمل أبدا بالصحافة.
لا حاجة بنا إلى الصحافة.
نقلا عن الشروق