محمد وليد بركات يكتب خواطر في فلسفة التغيير
التغيير حقيقة وجودية وسنة كونية، فلا شيء ثابت سوى الله سبحانه وتعالى، أما ما دونه من موجودات، فلا سبيل لها لتظل على حالها، إذ تنطبق عليها عبارة الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس، عندما قال: “إنك لا تنزل النهر الواحد مرتين؛ لأن مياها جديدة تجري فيه باستمرار”.
وربما يعتبر البعض أن التغيير هدفٌ في حد ذاته، فيدفع إلى العمل على إحداثه دفعا، دون التفكر في ماهيته، وإذا ما كان التغيير هدفا منشودا، أم أداة مستخدمة، وفي ظني أن الخيار الثاني أدق، لأن التغيير لذاته ربما يودي بنا إلى عواقب وخيمة، ويهدر مقدمات كانت ستؤتي أُكُلها نتائج طيبة بعد حين، لذلك فإن التغيير كإشعال النار، فبدون الاحتياج إليها للطهي أو التدفئة، قد تصبح قوة تدمير.
ولعل البعض يسأل عن الآلية المُثلى لإحداث التغيير، وفي ذلك للناس مذهبان، الأول يرى أن يبدأ من الأعلى، حيث مراكز القيادة والتخطيط واتخاذ القرار، والثاني يؤمن بأن يتدرج من الأسفل، حيث القواعد التي تطبق الخطط وتنفذ السياسات، ويذهب آخرون، وأنا معهم، إلى أن التغيير يجب أن يتزامن عند القمة وعند القاع، وهذا لا يتأتى إلا بشفافية تقييم الأداء العام، للوقوف على جوانب الإجادة والقصور، وانفتاح التواصل بين القيادة والقواعد لتبادل وجهات النظر، وتجسير الفجوات بينهما، وأخيرا وجود خطة محكمة واضحة للتغيير لئلا يكون عشوائيا أو ارتجاليا.
ويشير المُحنّكون إلى أن طريق التغيير دائما ما تمتلئ بالأشواك، فمقاومة التغيير طابع إنساني، وطواحين الفاسدين والكُسالى دائما ما تكره الدوران برياح التغيير، كما أن القيادة التي ستُشرف على عملية التغيير يجب أن تكون منزهة عن الهوى والمصلحة الشخصية، تحظى بثقة مرؤوسيها، وإلا فإن نظرات الريبة ستلاحق كل أفعالها، ما يُنذر بفشل العملية برمتها.
ومن ناحية القواعد، فإن لها أن تفهم دعاوى التغيير، ووسائله، وعليها أن تتسلح بالمهارات اللازمة لتحقيقه، وتُخلص في أداء واجبها لإنجاحه، مادامت تلمس صدق قياداتها في القول والعمل، ورغبتها في التطوير، وإن اقتضى ذلك التنازل عن بعض المكتسبات الشخصية.
كان هذا عن “إدارة” التغيير، أما “إرادة” التغيير، فلها شأن آخر لا يقل أهمية، فالتغيير يبدأ بالإيمان بأن ثمة ما يدعو إليه، وأن الأوضاع القائمة، وإن بدت جيدة، فهناك الأحسن منها، والأهم أن تنتقل تلك الروح من القيادة، فتؤمن بها القواعد وتعينها عليها، أو تنتقل من القواعد، فتتبناها القيادة وتدعمها، وفي الحالتين لابد للتغيير من أهداف تتسم بكونها SMART، فحروف تلك الكلمة الإنجليزية تشير إلى كونها: محددةSpecific ، وقابلة للقياس Measurable، وقابلة للتحقق Achievable، وواقعية Realistic، ومجدولة زمنيا Time bound، وبدون هذه السمات في أهداف التغيير، لن ترى النور ولن يُكتب لها التحقق، وإن توفرت الإرادة لتنفيذها.
ولقد شهدت منطقتنا العربية ريح تغيير صرصرا عاتية خلال العقد الماضي، تركت بصمتها على أنظمتنا السياسية، وقدراتنا الاقتصادية، ورموزنا الاجتماعية والثقافية، وإن كان من الشائع الحديث في هذا الصدد بنظرة ملؤها التشاؤم والإحباط، إلا أن الموضوعية تقتضينا أن نرى نصفي الكوب، الفارغ والملآن معا، فما كان لنا، في مصر، أن نرى قيادة جديدة الفكر، ماضية العزم، شاملة التخطيط، إلا إذا جرت مياه جديدة في نهر مشهدنا السياسي، وإن دفعنا ثمن ذلك دما ودموعا، ضريبة مستحقة لهذا الوطن.