سلاسة اللهجة المصرية
صعوبة اللهجة أو اللغة ابتداءً ليست عيباً، فقيمة أية لغة أو لهجة تقاس بثرائها في المفردات والتعابير إجمالاً قبل أن تقاس بصعوبة أو سهولة قواعدها والجهد اللازم لإتقانها. وبرغم أن سهولة تعلّم اللغة أو اللهجة تبدو مدخلاً لكثيرين للانحياز إلى تك اللغة أو اللهجة فإن البعض على العكس من ذلك يعتبر الصعوبة دليلاً على الثراء اللغوي ومن ثم مسألة موجبة للانحياز إلى التفضيل.
سلاسة اللهجة المصرية
اللهجات العربية تبدو جميعاً بالغة الثراء على قدر إمكانية النفاذ إلى أعماقها والاقتراب من أسرارها، وليس بمجرد المطالعة السطحية بطبيعة الحال. والحق أن أية لغة أو لهجة لا تخلو من الجمال والثراء، ولكن أحكام المقارنة عادة ما تكون سطحية مما ينطبع في الأذهان من الاستماع العام لمن يعرف شيئاً عن تلك اللغات أو اللهجات (تماماً كما هو الحال لدى العرب في المقارنة بين لهجاتهم على امتداد عالمهم الفسيح) أو حتى لدى من لا يعرف شيئاً من اللغة أو اللهجة ويحكم عليها من موسيقى ألفاظها ووقعها على أذنه لا غير.
الأدهى أنه حتى مع المقاربات الأكاديمية في المقارنة بين اللغات فإنه لا يمكن الوصول إلى نتيجة قطعية حول أفضلية لغة أو لهجة على أخرى، سواء بصفة عامة أو حتى في باب بعينه. ومن المهم الانتباه إلى أن علم اللغة المقارن/اللسانيات المقارنة Comparative Linguistics لا يعنى بدراسة العلاقة بين اللغات بصفة عامة بغرض المفاضلة بينها وإنما يهتم أساساً بالمقارنة بين لغات ينحدر بعضها من بعض أو تربطها صلات وجذور تاريخية مشتركة لتعقّب ملامح التقارب والاشتراك فيما هو صوتي أو اشتقاقي أو نحوي أو في غير ذلك من الظواهر بما يمتدّ إلى التوغّل في الكثير من الجوانب التاريخية والاجتماعية بصفة عامة لتأصيل أية خلاصة. ومهما تكن الدقة في الوصول إلى أية نتيجة مستخلصة فإن تلك النتيجة تظل عرضة لمزيد من الدراسة والتنقيب والتعقيب تأكيداً أو تغييراً أو بإضافات من أي قبيل بحيث تظل المسألة بالغة الثراء بديناميكيتها أكثر من كونها قابلة لبلوغ نتائج حاسمة تلقي بالقول الفصل وتقطع الطريق على الاختلاف.
الحكم على سلاسة اللغات واللهجات لن يكون سهلاً بدوره، وذلك بصرف النظر عن بعض الأحكام العامة التي لا تخلو من الوجاهة كالقول بأن الإنجليزية أكثر سهولة من الفرنسية على سبيل المثال لكونها أقلّ تعقيداً فيما يتعلق بمتطلّبات التأنيث والتذكير مع الأسماء والأفعال، وأكثر سهولة من العربية لكونها أقلّ تطلّباً بكثير سواءٌ في متطلبات التذكير والتأنيث أو التثنية والجمع. برغم ذلك، من الطبيعي أن تظل الإنجليزية صعبة ليست فقط على فرنسي أو عربي يتعلمانها على كبر، بل كذلك على سويدي مثلاً أتقن الفرنسية أو العربية في مرحلة باكرة من حياته كلغة ثانية ثم أقبل على الإنجليزية في وقت لاحق. وهكذا، لن تخلو مسألة تقييم سهولة (تعلّم) أية لغة أو لهجة من العديد من العوامل المتداخلة بما يجعل الحكم المجرد في هذا الباب أمراً بالغ التعقيد.
فيما يتعلق باللهجة المصرية، فإن سهولتها وسلاستها على المستوى العربي ليست محل خلاف بقدر يذكر، وذلك بطبيعة الحال ليس استناداً من كل فرد عربي في القياس إلى لهجته الأم أو حتى لهجة بلد شديد الالتصاق به وإنما على النطاق العربي العام، وأيضاً دون أن ننسى نسبية الحكم واستحالة الاتفاق المطلق عليه بالإشارة إلى التعقيدات الواردة فيما سبق عند الحديث عن اللغات واللهجات بصفة عامة.
ليس من السهل بحال إغفال دور الانتشار الثقافي والاجتماعي المصري عربياً في جعل العامية المصرية أكثر ذيوعاً وسهولة واستساغة. وقد لعبت ثلاثة عوامل رئيسة الدور في تأكيد الانتشار الثقافي والاجتماعي المصري: العامل الأول هو دور مصر، لا سيما في التاريخ الحديث، وثقلها السياسي عربياً على اختلاف الأنظمة بما في ذلك ما كان قبل إعلان جمهوريتها الحديثة أوائل الخمسينيات الماضية. العامل الثاني هو القوى البشرية المصرية الهائلة التي ظلت تتدفق عبر الحدود العربية وتشارك في بناء المؤسسات في كثير من الدول العربية على اختلاف تلك المؤسسات، وأهمُّها التعليمية. العامل الثالث هو الإعلام والدراما والسينما المصرية، ولا يمكن القول ببساطة بأن العامل الأخير هذا كان هو الأبلغ أثراً، ولكنه لا ريب كان ذا تأثير فريد استطاع أن يتغلغل في كل البيوت العربية وينساب في الوجدان متجاوزاً كل العقبات بما في ذلك تقلبات وتحديات أشكال العلاقات الرسمية بين الدول.
لم يكن من السهل إذن على اللهجة المصرية أن تحظى بذلك الاختراق العربي الكبير بمعزل عن تلك العوامل الثلاثة، لا سيما العامل الأخير بوصفه مستمراً عبر العقود رغم كل الظروف مخترقاً أبواب البيوت العربية حبّاً كرامة.
لكن ما الذي جعل العامية المصرية ابتداءً قابلة للترويج بذلك الاطمئنان لقابليتها لاختراق الآذان والقلوب العربية؟ وأرجو أن يجوز الافتراض المضمر في التساؤل.
تبدو المرونة التي اتصفت بها الشخصية المصرية أهم ما يمكن تبيّنه من الأسباب التي أكسبت العامية المصرية سهولتها – بقدر ما يمكن الاتفاق نسبياً على ذلك – وسلاستها التي تجلّت في قبول العرب لها عندما انسابت إلى حياتهم على أكثر من صعيد. ومرونة اللهجة المصرية تعني أنها استجابت للمؤثرات التي داخلتها فقبلت حتى الأخذ عن الجاليات التي وفدت عليها في جماعات قليلة وليس على شكل هجرات جماعية، بل أخذت حتى عن الجاليات غير العربية ومصّرت ما أخذته من كلمات وتعابير.
ولكن ذلك يمكن أن يقال عن كل أمة، عربية أو غير عربية، احتكت بغيرها من الأمم فأخذت عنها، وأية أمة لم تفعل؟ هنا قد يبدو الثراء الحضاري ممثلاً في العدد الهائل للحضارات والثقافات التي رفدت الحياة المصرية على مرّ العصور عاملاً مميزاً حفز الشخصية المصرية على قدر أكبر من المرونة تجاه اللهجة تماماً كما حفزها على المرونة في كل صعيد. ولكن، بموازاة ذلك، تبدو نزعة الشخصية المصرية وقدرتها على تبسيط القضايا والأمور المعقدة سبباً عميقاً وراء ما ذهبنا إليه من سهولة وسلاسة اللهجة المصرية.
التبسيط موهبة كما يبدو، وهو لا يعني أن الشخصية الميّالة إلى التبسيط تجد صعوبة في التعامل مع القضايا المعقدة بل يعني أنها تفضّل أن تفكّك القضايا المركبة وتحللها إلى عواملها الأولية وتتعامل مع تلك العوامل بقدر أكبر من الانتظام والسهولة، وهو مذهب في التعامل مع شؤون الحياة على اختلافها. تلك مقاربة تبدو قابلة للقراءة بوضوح كذلك في المجتمع الهندي على سبيل المثال الذي قد يبدو بعيداً عن سياقنا الجغرافي والاجتماعي، ولكن سمة المنتجات الفكرية والعملية الهندية تبدو بالفعل مغرية بقياس من هذا القبيل، فللعقلية الهندية قدرات عظيمة على التعامل مع القضايا المعقدة، ولكن أيضاً من خلال الميل إلى فكّها وتحليلها إلى عواملها الأولية ثم إعادة إنتاجها داخلياً وللآخر أكثر بساطة وسلاسة في الاستيعاب.
في المقابل، وعلى صعيد لا يقلّ بعداً بحال من حيث السياق الجغرافي والاجتماعي، تبدو العقلية الإنجليزية أكثر ميلاً للتعقيد. فهي دوما قادرة على إنتاج أنظمة علمية وفكرية وعملية فعّالة ولكن يصعب وصفها بأية حال بأنها بسيطة أو مبسّطة، بل على العكس يبدو كل ما هو إنجليزي كأنما يعمد إلى التعقيد عمداً.
يظل الثابت عقب تلك السياحة التي طوّفت بنا حول أكثر من مدار ثقافي وحضاري وطوّحت بنا في غرب الدنيا وشرقها، يظل الثابت أن العامية المصرية قد اخترقت بالفعل آذان العرب وحياتهم الاجتماعية خاصة كما لم تفعل عامية أخرى، وذلك بغض النظر عمّا يمكن الاتفاق عليه أو الاختلاف حوله من الأسباب، وهي أسباب كما ألمحنا ليست بعيدة على كل حال عن الأسباب التي أكسبت الشخصية المصرية خصوصيتها الفريدة على النطاق العربي تحديداً.