لم نختر الصحافة وصوب عيوننا الصور التي تشعل مواقع التواصل الإجتماعي. لم ينتقل كثيرون منا من قراهم ومدنهم البعيدة إلى القاهرة وشقق الاغتراب البشعة سعيا وراء مؤامرات السياسة ولقاءات المسئولين ورحلات الرئاسة.
لا يملك أي منا رؤوس أموال الصحف ولا القنوات التي نعمل بها. ولا يملك كثيرون منا كذلك رفاهية الجلوس في بيوتهم. لكن قليلون منهم يملكون – حتى الآن – على الأقل القدرة على رفض توصيف غير مهني أو موضوع رخيص أو تقليل حجم النفاق أو الاصرار على نشر أو اذاعة ما قد يجلب تليفونا من الجهات أو صاحب الأموال.
لم يؤلمني شيء بقدر ما فعل مقال الأستاذ محمد موسى الأخير في الشروق. هم الرجل الشخصي تحول عند كثيرين إلى شهادة من ابناء المهنة بأنها انتهت. وأن كل من يعملون بها ما هم إلا قطيع يشارك في نشر الأخبار المفبركة واستغفال القاريء والمشاهد.
ساعد الصحفي المخضرم كثيرين من زملائي في بدايات عملهم كصفحيين أو كمعدي برامج. نقل لهم خبرته العريضة في الكتابة الاحترافية وإعداد التقارير وتحضير الحلقات. التقيته مرة واحدة وأتابع ما يكتبه أسبوعيا عن الإعلام فيصيب به مواطن فساد المهنة ويربط ما يجري من ظواهر فاضحة بأسلوب حرفي علمه لكثيرين منا.سمعت اسم الرجل في مكتب بي بي سي ومن زملاء الشروق وأعرف ما أسهم فيه من إعداد لكثير من المشروعات الصحفية فكان مخيبا أن يصل الحال إلى تلك النقطة.
ردود الفعل على المقال تحولت بشكل سريع إلى رثاء للصحافة وإغفال لطاقات لم يمنعها كل ما ذكره المقال وغيره من المقالات عن سوء حال المهنة من المعافرة ورفض أن يكون هذا الفصل الأخير.
لم تتحول صور وفيديو إسلام أسامة وزملاؤه للحظة قتل شيماء الصباغ إلى أيقونة ولحظة مؤثرة وجرافيتي في شوارع برلين فقط. لكنها أصبحت دليل إدانة في المحكمة وضع القاتل خلف القبضان. قد يخرج يوما ما لكننا لم نقف صامتين على الأقل.
بعد البوستات المجهلة والكلام المرسل أقدمت التحرير مؤخرا على نشر أجرأ تناول مهني لظاهرة توريث القضاء لتترك القاريء وذي العقل يسأل نفسه عن مصير بلد تحكمه منظومة بهذا الشكل.
في ورشة للصحافة تسألنا المدربة والمراسلة المخضرمة عن سجل أعمالنا وحين يصل الدور إلى صفاء فتحكي بخجل وتواضع جم كيف انتقلت في اليمن وحدها بين صفوف الحوثيين وصورت بكاميرا صغيرة أنجال القتلى في الحروب الأولى وقد تحولوا إلى مقاتلين لا تقدر أكتافهم النحيلة على حمل السلاح والقات في جوانب أفواههم. كانت صفاء أول من كتب عن باب المندب وقبلها كانت تلتقي طرفي الصراع في ليبيا لتعود بقصص لم نكن لنراها لولا شجاعتها التي تتحول كثيرا إلى تهور.
تعجل علاء حين عرف بفض الاعتصام الذي عايشه لأيام طوال. نزل من الشقة وتوجهت أنا إلى القناة. بعد ساعات عرفت أن رصاصة اخترقت فخذه وهو يلتقط الصور في فض الاعتصام بينما مصعب على التليفون يحدثني عن القبض على عبد الله كان مواطنون شرفاء يحاولون تسليمه هو نفسه للشرطة.
بعد فترة قصيرة كان علاء يلتقط الصورة الأشهر لزملائه تحت الرصاص يوم أحداث كرداسة وصورة أخرى لمأمور القسم بعد أن قتلته رصاصات إرهابيين.
رغم القصف وأكمنة الطرفين ذهب وائل إلى سيناء وعاد بقصص ظلت تنشر على مدار شهور. كانت المرة الأولى بعد أن تحولت إلى سيناء إلى جحيم أن نجد تقارير صحفية تطرح أسئلة كيف يعيش فلسطينيون مهمشون في العريش وما خريطة انتشار أنصار بيت المقدس في المنطقة وحال أهالي سيناء وسط التهميش وغياب التنمية وتحت النار.
كان موعد عودة “آخر كلام” مرة أخرى. يفكر الجميع في أفكار تحقيقات وتقارير. أصر علي السطوحي أن يعد تحقيقا يرصد موجة التحريض والعنصرية التي تبناها إعلاميون وصحفيون في التعامل مع السوريين والفلسطينيين المقيمين في مصر. 3 شهور من العمل . يعود علي في كل ليلة يحكي عن قصص الأطفال الذين تعرضوا لموجات الكراهية، والأسر التي رفضت لقاءه في البداية لكنه ألح وأقنعهم. الفتاة التي فقدت عينها والرجل الذي ينتظر الهجرة وتصريحات المحافظ ومسئولي الشرطة.
في الدورة الأخيرة من مؤتمر أريج كان حال الإعلام في مصر يستحوذ على أكبر اهتمام من المشاركين والمتحدثين. في كلمتهما على المنصة وفي أحاديثهما الجانبية معنا ركز سيمور هيرش وتيم سباستيان على أن المنظومةرغم فجاجة ممارساتها الواضحة ما زالت تضم صحفييين كثر يرفضون هذا الحال ويحاولون تغييره. أشار الاثنان تحديدا إلى مبادرة رفض توصيات رؤساء تحرير الصحف حينها والتي كانت أول إعلان عن التخلي عن كل ما حققته الصحافة من هامش حرية ومهنية خلال السنوات الماضي.
في الليلة الختامية من ذات المؤتمر كان اثنان من الزملاء ينظران إلى المنصة وهما يسمعان خبر فوز كل منهما بجائزة عن عمله دون أن يعلن اسمه. الأول كان يحمل اسما مستعارا خشية ملاحقة السلطات والثاني حجب اسمه لان التحقيق الذي استغرق نحو عام كامل من التحضير والبحث والتصوير والمونتاج والمراجعة رفضته إدارة المؤسسة التي يعمل لصالحها.
لنحو عام كامل لم يمل المصورون الصحفيون من الوقفات ولا الكتابات ولا محاولات الزيارة ولا الرسائل والاستغاثات للإفراج عن زميلهم محمود شوكان. لم تسفر كل هذه الأشياء عن شيء لكنهم على ضعف ما فعلوه لم يملكوا سواه. لم يصمتوا حين اختطف زميل منهم وبقي لنحو عامين حتى الآن حبيسا لأن مهنته تطلبت أن يتواجد ليغطي فض اعتصام رابعة العدوية
حين ظهر عبد العاطي وجهازه لم يصدق كثيرون وسط موجة السخرية أن هذا حدث. الآلاف كانوا يدعون الحكمة ويطمئنون أنفسهم خشية تصديق أن الأمر وصل إلى هذه النقطة. لم يخجلوا حتى من طلب الانتظار أو رفض افساد بارقة الأمل. كان الأمر واضحا لكن قطاعا آخر كان ينتظر فهما حقيقيا ومعلومات وتسلسلا للقصة. ظهر تقرير محمد أبو الغيط مع حلقات باسم يوسف ومداخلات إسلام حسين وقتها ليقضي على الأمر تماما. لم يسفر هذا عن محاسبة أو محاكمة أو حتى اعتذار لكن يبقى خروج هذا التقرير بدقته وسعيه لكشف الأمر شاهدا على أن قطاعا من الصحفيين لم يسكت حينها.
وسط مناخ رياضي بشع. ووسط إعلامي تحول إلى مباراة في التحريض والانتفاع ظل هاني حتحوت يقدم مادة محببة سواء في التلفزيون أو الراديو أو في موقع في الجول. ينتشر اسمه يوميا . يسمعه سائقو التاكسي بحب شديد ويتابع الآلاف القصص والأخبار التي انفرد بها عن محمد صلاح وأبو تريكة وغيرهم. يتحرك بثبات وهدوء نحو مكانته المستحقة.
على قلة ما يجده حسام بهجت يوميا في الصحف المصرية خلال رصده لما يستحق القراءة والمتابعة يبقى نفس وسط كل هذه الهيستيريا والخطاب الواحد والعنوان الموحد والبث المشترك. أصوات تدفع كابوسا يكاد يطبق على أنفاسنا لكنه على الأقل. لم ينجح حتى الآن في كتمها.