كيرلس عبد الملاك
نجيب محفوظ والحشيش نموذجًا
كل المتطرفين فكرياً وثقافياً يدَّعون امتلاكهم الوعي، بينما هم يمتلكون رؤى متطرفة قائمة على أنصاف الحقائق أو على أكاذيب تتجلى لهم في ثوب الحق المطلق الذي لا يشوبه شائبة، وهنا يظهر الغرور الذي يقود تلك العقول إلى إقصاء كل من يرونه مخالفاً لهم في الرأي أو التوجه وإلقاء الاتهامات الجزافية تجاهه دون أدنى فحص أو بحث. ومما يسترعي انتباهي دائماً أنني كلما أدخل في حلقة نقاش مع شخص ذا فكر متطرف يتهمني بالتطرف فقط لأنني طرحت فكرة أو أكثر على النقيض من الأفكار التي يتبناها ويؤمن بها. مع العلم أنني لست معتاداً على طرح أفكار ليس لها دلائل دامغة، فأنا حينما أستعرض قضية ما لا بد أن أغوص في أعماقها بإحكام متجاهلاً العاطفة تماماً حتى أصل إلى أفكار نزيهة خالية من التحزبات أو الانتماءات العاطفية التي تقتل الحقيقة.
لذلك فإن من الواجب على أي مجتمع بما يحمله من أدوات إعلامية وثقافية ألا يسمح للعشوائية الفكرية أن تسبح في أدمغة سكانه من البشر وألا يسمح للمتطرفين أياً كان مجالهم أن ينشروا أفكارهم العشوائية باعتبارها حق مطلق، بل عليه أن يفتح الباب أمام المستنيرين الحقيقيين الذين يستندون على الأبحاث النزيهة، وليس المتاجرين بالفكر والثقافة، لكي يعلنوا عن الحقائق المثبتة بدلائل وبراهين دامغة، فيوقفوا حالة العشوائية الفكرية والثقافية التي تعتمد على تحويل ظنون وادعاءات إلى حقائق، مرفوض مناقشتها.
في هذا المقال أبدأ سلسلة من المقالات بعنوان: “في طريق الوعي”، أعدها خصيصاً لموقع إعلام دوت كوم الذي أسعد بتواجدي ضمن كتابه، لعل تلك المقالات تكون سبباً في رفع مستوى الوعي في المجتمع المصري، في عصرنا الحالي المليء بالتخبط الفكري والادعاءات الكاذبة وغير الدقيقة نظراً لانفتاح الأبواب الإعلامية والإنترنتية “إذا صح التعبير” لكل من هب ودب ليقول كلمته مدعياً أنه يمتلك الحق المطلق.
العديد من الكتاب والمؤلفين المشاهير عبر العصور أخطأوا أخطاءاً فكرية فادحة أودت بعقول الكثيرين في هوة الجهل والتحزبات القاتلة، ليس لأنهم استندوا على دلائل دامغة لا تحمل مجالاً للشك في صياغة أفكارهم، لكن لأنهم ماهرون في صياغة الأفكار وحبكتها أمام الجهلاء الذين يمثلون غالبية سكان الأرض من البشر. وهنا يحضر التساؤل: لماذا لا يطلب غالبية البشر دلائل دامغة قبل أن يسقطوا في اعتناق أوهام وخيالات صادرة عن قلم أو عقل ما؟
في تقديري، ذلك يرجع في المقام الأول إلى أن عوام الناس يحتكون بالأفكار المختلفة من خلال مشاعرهم النفسية المباشرة التي تُبنى من خلال تراكمات وخبرات وانفعالات حياتية شخصية، ليس لها دخل بمدى صحة الأفكار أو مصداقية أصحابها، وهنا تكمن الكارثة، فالذي يعتنق الأفكار أياً كان مجالها بسبب جمال صياغتها أو مهارة حبكتها أو حب قائلها أو كراهية المعترض عليها يسهل عليه تصديق أية أكذوبة طالما استطاع قائلها أن يحبكها لغوياً وقصصياً بدلائل واهية لا توجد إلا في عقله الخالي من المصداقية.
وهنا أستحضر مثالاً يؤكد أن الأدباء والمثقفين معرضين لأخطاء فادحة، سواء عن قصد أو دون قصد، مما يتوجب على أي متابع لأفكار المشاهير أياً كانت حيثيتهم أن يتوخى الحذر، ويمتلك عقلاً نقدياً به يستطيع أن يصل إلى الحقيقة دون انحيازات نفسية عاطفية. نجيب محفوظ والحشيش نموذجًا
برغم تألقه في فن الرواية وحصوله على جائزة نوبل العالمية في الأدب، إلا أنه لم يكن إلهاً، أي أنه معرض للخطأ والصواب. وهذا ما يجب أن يدركه القاريء الشغوف بمتابعة كاتب أو مؤلف على درجة عالية من القدرة على صياغة الأفكار مثل نجيب محفوظ.
ذكر الكاتب الصحافي رجاء النقاش في كتابه: “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”، تحت عنوان: “الحشيش والنكتة”، أن نجيب محفوظ، الذي كان مقرباً منه، صرح له أنه كان يدخن الحشيش، بل كشف أن محفوظ دافع عن تعاطي مخدر الحشيش معتبراً أنه بلا أضرار، مستنداً على آراء طبيبين هما الدكتور غلوش والدكتور أدهم رجب، ومستنكراً في الوقت ذاته مساواة الحشيش بالمخدرات الأخرى مثل الكوكايين.
هذه الفكرة التي نسبها النقاش إلى نجيب محفوظ، لا يمكن أن نعتبرها صحيحة، فهي من الجانب الصحي خطأ كارثي لا يمكن التسامح معه، فبرغم محبتي لشخصية نجيب محفوظ في جوانب كثيرة، خاصة ما يتعلق بالتسامح والوجه الأدبي الإبداعي، إلا أن تلك المحبة لا يصح أن تجعلني أفقد نزاهتي بتشجيعي لفكرة خاطئة يمكن أن تدمر أجيالاً من البشر.
بالرجوع إلى بحث أكاديمي، صادر في عام 2001، بعنوان: ” The health and psychological effects of cannabis use” ومعناه باللغة العربية: ” الآثار الصحية والنفسية لتعاطي القنب”، يتضح من نتائجه أن نبات القنب والذي يستخرج منه مخدر الحشيش يؤدي إلى سوء الصحة العقلية وضعف التحصيل العلمي ودفع متعاطيه إلى السلوك الإجرامي كما يزيد من خطر الانتحار. وفي بحث أكاديمي آخر بعنوان: ” Acute and Long-Term Effects of Cannabis Use: A Review”، ومعناه باللغة العربية: ” الآثار الحادة والطويلة الأجل لاستخدام القنب: مراجعة”، يتضح أن نبات القنب يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بسرطان البلعوم وسرطان الرئة وغيرهما من الأمراض.
بعد الاستعراض السابق للأخطار الصحية لمخدر الحشيش لا يسعنا إلا أن نصف تصريح نجيب محفوظ بخصوصه بأنه خطأ فادح ينبغي معارضته وتبيان خطأه بالأدلة والبراهين العلمية، ليس كراهية للأديب الكبير بل دعماً للوعي الجمعي الذي إذا تأذى أخذ البلاد والعباد إلى هوة الانهيار، نظراً لترويجه تعاطي مخدر يمثل خطورة كبرى على صحة الإنسان وعقله.
أي من مشاهير الكتاب والمؤلفين هو إنسان معرض للخطأ، لابد أن أتعامل معه من هذا المنطلق، فحينما أمسك كتاباً أياً كان مؤلفه ينبغي ألا أتعامل مع محتواه بمنطق المتلقي الصامت أو التلميذ خالي العقل، لكن أتعامل معه بمنطق الباحث عن الحقيقة، الحذر، الذي يناقش الكاتب فيما كتب لا لكي يتصيد الأخطاء لكن لكي لا يسقط في أخطاء الفكر ذات التأثير الضخم على الحياة، فالكثير من الكتاب عبر العصور تراجعوا وأضافوا وحذفوا من أفكارهم التي سبق نشرها بعد أن تيقنوا من خطأهم أو نقص أفكارهم.
العقول التلقينية، التي تتخذ معلوماتها ومعتقداتها من خلال التلقين بغير نقاش أو بحث، تصنع أزمة لنفسها كما تصنع أزمات لمجتمعها من خلال سلوكياتها المبنية على انتماءات غير مدروسة. فهي من جانب تصاب بتشوه الفكر والسلوك ومن جانب آخر تنشر تشوهها الفكري والسلوكي بين المحيطين بها فتعمل على توسيع دائرة المشوهين فكرياً وسلوكياً. وهنا يزيد عدد الجهلاء الذين يقدسون جهلهم وأفكارهم الخاطئة في المجتمع مما يجعل المجتمع على شفا حفرة من الفشل والانهيار.
في رأيي، إن تنمية العقلية النقدية لدى القاريء والمتابع للإعلام والميديا في العموم من أهم الضروريات المعاصرة، وهذا لا يتم إلا بالتدريب على ذلك، سواء من خلال مراحل التعليم المختلفة أو من خلال وسائل الإعلام المختلفة فضلاً عن التربية الأسرية. وهذا يتطلب الاعتماد بشكل كبير على المتخصصين، الباحثين الجادين الذين يمتعتون بالنزاهة العلمية، في الحصول على الأفكار والتصريحات الإعلامية والصحافية، بالإضافة إلى تشجيع عامة الناس على إجراء الأبحاث غير المتحيزة أو على الأقل اللجوء إلى الأبحاث غير المتحيزة للوصول إلى الحقائق، بدلاً من الارتماء في أحضان التصريحات المتهورة وغير الدقيقة التي تصدر من هنا وهناك.