مثلما كان لموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” فضلاً أساسيًا في تفجير ثورة 25 يناير، فإن له أفضالاً أخرى تمثلت في الدعوة لكثيرٍ من الثورات الاجتماعية (الصغيرة) أملاً في تصحيح القيم والعادات الخاطئة، منها كانت ثورة صحفيي “الديسك” ضد الأخطاء المتكررة لزملائهم المحررين.
صحفي الديسك هو حلقة الوصل بين المُحرر الصحفي، الذي يزوّد الجريدة بالأخبار والمعلومات والبيانات، وبين القاريء الذي يُطالع عمل المُحرر بعد أن يقوم صحفي الديسك، الجندي المجهول، بعمل صياغة راقية له يتجنّب فيها الأخطاء الإملائية واللغوية والفنية.
بعد أن فاضل الكيل بأهل “الديسك” أعلنوا عن ثورة افتراضية استبدلت اللافتات بـ”status” والميكروفونات بخطابٍ هجومي حاد على جميع الصحف والحشود، عُذرًا قانون التظاهر، بعدد متابعين تجاوز الآلاف في أيام، ودشنوا صفحات كـ”جرائم الديسك” و”اكتب صح” تفضح الانتهاكات التي تتعرض لها لغة الضاد من قِبَل الصحافة غير المحترفة، والتي تستغل حالة الجهل اللغوي للمواطنين في اتكاب أخطاء هائلة يقوم بها المحرون دون أن يعبأ أحد بتصحيحها.
صحفي الديسك هو الأكثر تعرضًا للمرض دونًا عن رفاق الخدمة في بلاط صاحبة الجلالة
علاوة على تعرض الواحد منهم لضغط عصبي مهول نتيجة ضغط العمل عليه، لأن كل خبر يُنشر على الموقع لابد وأن يمرُّ عليه أولاً يأخذ منه صك الأمان، ونتيجة لـ”حرقة دمه” المستمرة نتيجة الأخطاء اللغوية الساذجة التي يُكررها المحررون، والمفترض ألا يقع بها طلبة ابتدائي، فإن جلوسه لساعات طويلة، دون حركة على المكتب، يؤدي لإصابته بعدد من الأمراض بحسب ما أكدت دراسة حديثها نشرها موقع مجلة “العلوم” الألمانية، التي أكدت أن الجلوس لساعات طويلة يوميًا يُسبِّب أمراض القلب والسرطان على المدى البعيد!
كما أن دراسة أخرى قامت بها جامعة “ريغنسبورغ” في ولايه بفاريا الألمانية، على 4 ملايين شخص، أظهرت أن 68.936 حالة إصابة بأمراض السرطان أكثرهم من محرري “الديسك” بسبب جلوسهم لساعات طويلة أمام شاشات الكمبيوتر.
ويتحدث الكاتب الصحفي حسام مصطفى إبراهيم عن تجربته كـ”ديسك-مان” وعن مبادرته “اكتب صح” التي حققت تفاعلاً كبيرًا على موقع “فيسبوك”، قائلا: “بدأت صفحة “اكتب صح” لتصويب الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية التي كنت أقابلها من أصدقائي الصحفيين، وغير الصحفيين، كانت مبادرة للكف عن البكاء على اللبن المسكوب، والبدء في تقديم شيء إيجابي، للنهوض باللغة العربية وإعادة كرامتها له”.
ويتابع حسام: “استقبال الناس للصفحة بحفاوة شجعني أن أستمر وأطوّر فيها، وأفتح الباب للاستفسارات، وحتى الآن جذبت الصفحة أكثر من 29 ألف متابع، وتنظم ورش وتدرب الصحفيين في مواقعهم وجرائدهم”.
ويحكي مؤسس “اكتب صح” عن المواقف الطريفة التي يقابلها خلال ساعات عمله: “مثل هذه المواقف غالبًا ما تكون مرتبطة بأخطاء اللغة، وأتذكر مرة شخص كتب “الالتهاب السحاقي” بدلا من الالتهاب السحائي، لأنه ظن “السحائي” عامية فأراد أن يفصّحها، ومرة شخص كتب “قال المجانون” وليس “المجانين”، باعتبارها فاعل، فقام برفعها بالواو! ومرة جمع شخص كلمة “تابلت” على “تبالت”، و”يخت” على “يختات!”.
هذه الأخطاء اليومية المتكررة التي يقابلها قسم الديسك والتصحيح اللغوي كانت سبب الثورة التي اندلعت مؤخرا في أوساط محرري الديسك، وتجلّت على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يبررها المُصحِّح اللُّغوي والشاعر محمود عبد الرازق قائلا: “ثورة الديسك” بدأت مؤخَّرًا بسبب انتشار السوشيال ميديا أفقيًّا بين الناس، ورأسيًّا في كمّ المعلومات والأخبار والتقارير وغيرها، فمحرر الديسك بعد أن كان في الماضي يطالع الأخبار بشكل محدود عبر صفحات الجرائد الورقية اليومية والأسبوعية، والمجلات الشهرية، أصبح يرى كمًّا أكثر بكثير من كل هذا ربما يوميًّا، فمواقع الإنترنت الإخبارية، وصفحات السوشيال ميديا، والسعي وراء زحام “الترافيك”، كل هذا يجعل الكمّ الذي يمرّ أمام محرر الديسك أضعافًا مضاعَفة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم الإصدارات الورقية تخضع لمراجعة وتدقيق، في حين يسعى العاملون على زحام “الترافيك” إلى كثرة المادة المنشورة، متغاضين في معظم الأحيان عن جودتها، فإن الأضعاف المضاعفة تصبح أرقامًا خيالية من الأخطاء، ما بين معتاد وقاتل.
وعن أصل تسمية “ديسك” يقول: “لا أعرف على وجه اليقين أصل تسمية “ديسك” أو “ديسك-مان”، ولكن أظنّ أن محرري الديسك الأوائل كانوا يستقبلون الأخبار من الصحفيين وهم جالسون على “ديسك” مخصوص لعملهم، فالصحفي يكون في الخارج يتابع الأخبار، أما المحرِّر الصحفي فيكون على “الديسك”، وكان هذا يميّزه، فسُمِّيَ به”.
على عكس الشائع دائما من أن المصحح اللغوي يجلس طوال الوقت يصحح الأخطاء وهو يسب ويلعن الصحفيين يقول محمود: “تجربتي فيها من المتعة أضعاف ما فيها من العذاب، وسرّ المتعة أنها دائمًا ما تدفعني إلى التيقُّن من معلوماتي، خصوصًا اللغوية، ما دفعني في النهاية إلى تأليف كتاب عن الأخطاء اللغوية الشائعة، فكان من أجمل ما تسبّب لي فيه الديسك.
ولكن هذا لا ينفي أن تكرار الأخطاء وورودها مرات ومرات أمام العين يُضفِي على الأمر جانبًا من الملل والسأم، ودائمًا ما أتساءل: ألا يقرأ الصحفي الخبر بعد تحريره ونشره؟! ألا يدرك هذا الفرق الضخم بين ما كتبه وما نُشر تحت اسمه؟!”.
نقلًا عن موقع “اليوم الجديد”