يحزن الشعر العربى كثيرا إذا مرت الذكرى السابعة لرحيله اليوم (9 أغسطس) دون التوقف عند هذا الرجل.
فمحمود درويش تمكن ببراعة لافتة من أن يسكب فى أرض القصيدة العربية أنهارًا جديدة من المياه العذبة، وأن يشعل فى وجدان قرائه ومستمعيه قناديل المحبة والثورة فى آن واحد، ومحظوظ لا ريب مَن أتيح له أن يحضر أمسية بطلها درويش، فينصت إليه وهو يلقى أشعاره بقلب يخفق بالوجد، وروح هائمة فى فضاء اللغة ومساربها.
التقيت درويش غير مرة… فى القاهرة ودبى، وانتزعت منه بعض التصريحات الصحفية نشرتها فى جريدة «العربى» قبل عشرين سنة، كما انحشرت مع الجمهور الغفير لنستمع إليه فى أكثر من مكان، لكننى أحتفظ فى ذاكرتى بحوار عفوى طويل امتد بيننا قرابة الساعة فى بهو أحد فنادق دبى منذ أحد عشر عامًا.
انتظم هذا الحوار بالمصادفة، فقد كنت أجلس إلى الناقد الكبير فاروق عبد القادر -رحمه الله- فجاء درويش وصافح فاروق بحرارة، فهما صديقان ثم انضم إلينا، وبدأت أسئلتى تنهمر على الرجل.
فى هذا اللقاء بدا درويش مهذبا.. أنيقا.. يتحدث بتلقائية، ينتقى عباراته بذكاء، وقد تناول القهوة، وداعبنى عندما طلبت من النادل أن يحضر لى الشاى فى كوب زجاجى، حيث قال لى: «هل سيتغير طعم الشاى يا ناصر إذا لم يكن فى كوب زجاجى؟».
سألته عن عدد الدعوات التى يتلقاها فى العام الواحد، فقال نحو 500 دعوة، فعاجلته.. وعلى أى أساس تلبى هذه الدعوة أم تلك؟ فأجاب ضاحكا: «أنا خجول.. مَن يلح كثيرًا أتحرج فأوافق».
فى هذا اللقاء لم يكن تبدو عليه السن لولا شعيرات بيض تسللت إلى شعره وحاجبيه (هو من مواليد 31 سبتمبر 1941)، فرشاقته لافتة بحق، ومن عينيه يشرق حب الحياة والتمسك بأهدابها، لذا سألته عن تجربته مع المرض ورأيه فى الموت، وهو الذى تعرض لعمليات خطرة فى القلب، فابتسم وهتف: «الموت لا يؤلم الميت.. الموت يؤلم أصدقاء الميت». فقلت له.. ما أكثر الأمور التى تؤلمك وتزعجك، ففاجأنا بقوله: «حتى هذه اللحظة ينتابنى كابوس شبه يومى بأننى سأدخل امتحان الرياضيات غدًا.. ولم أذاكر بعد». وقد فسر حلمه بأنه لم يكن يحب الرياضيات!
فى هذه الجلسة النادرة أفاض صاحب «العصافير تموت فى الجليل» فى الكلام عن الحب والمرأة والخمر والدين، وعندما جاء وقت الانصراف استأذنته فى أن أنشر هذا الحوار العفوى، فرفض بأدب، لكن الأستاذ فاروق رجانى أن أسجله فى يومياتى فورًا، فقد يأتى يوم يستلزم نشره.
فلما غاب عن دنيانا، خصصنا عدد سبتمبر 2008 من «دبى الثقافية» عن محمود درويش ونشرت نص الحوار.
من أجل عيون الشعر… يتحتم أن نتذكر محمود درويش.
نقلًا عن “جريدة التحرير”