منة المصري
نظرة أخيرة على الجثمان
“المكان حزين والزمان حزين .. المكان مستشفى القوات المسلحة بالمعادي.. بين جدرانه عاشت ايامها الأخيرة ساعاتها الأخيره ثم اخر لحظات العمر.. الزمان يوم الأربعاء الخامس من فبراير 1975.. في ساعاته الأولي وأضواء الفجر توشك أن تبدأ الصباح الحزين، بعد قليل تصل السيارة إلى غايتها في مسجد عمر مكرم بميدان التحرير بقلب القاهرة، وتستقبل رحاب المسجد الطاهرة الجثمان الطاهر حيث يسجي مجاورا المنبر مواجها القبلة جسدا بلا روح جسدا فارقته الحياة”
45 عاما مرت على رحيل الست أم كلثوم ولا زالت تحيا في ذاكرة الأمة، لا زالت أفلام تصنع وتروي وتتحدث عن فصول حياتها المختلفة وفنها وتربعها علي القمة لسنوات طويلة، لا زالت بين أيدينا مشاهد وصور تكاد تنطق وتحكي لنا كل مشاعر الحزن والفقد لملايين المصريين ممن شاركوا في وداع كوكب الشرق وألقوا النظرة الأخيرة على النعش والصلاة عليها واتباع جنازتها.
مشاهد من الأبيض والأسود رصدت ووثقت دموع ما يقارب 4 ملايين مصري شاركوا في لحظات الوداع الأخيرة.
“فقدت الجمهورية العربية المتحدة وفقدت الأمة العربية وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلى الرجال رجلا من أشجع الرجال وأخلص الرجال هو الرئيس جمال عبد الناصر، الذي جاد بأنفاسه الأخيرة بينما هو واقف في ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل يوم انتصارها”، أنور السادات ناعيا جمال عبد الناصر في الـ ٢٨ من سبتمبر ١٩٧٠.
عم الخبر أرجاء المحروسة كما عمت الجماهير الغفيرة الشوارع الجانبية والميادين الكبري من قصر القبة وحتي كوبري قصر النيل محتشدين بالملايين رافعين صورا للزعيم الراحل كما صورتهم كاميرات الفيديو والفوتوغراف حينئذ.
فرغم مرور أكثر من ٥٠ عاما على الرحيل إلا أننا نملك تأريخا لهذا اليوم وصورا حية للجنازة وتوثيقا لمشاعر المشاركين في هذا الحدث الجلل، غير أن التوثيق ورصد الخبر الصحفي ونقل الصورة من موقع الحدث يختلف كل الاختلاف مع الهواة في حقل الصحافة التليفزيونية ومحترفي تصدر الترند بأخبار من نوعية “شاهد انهيار الفنانة الفلانية في العزاء” و”بث مباشر من داخل مدافن الأسرة” و”بالفيديو.. ابن الراحل ينفعل على أحد الحاضرين داخل سرادق العزاء” و”بالصور .. وصول النجم الفلاني للعزاء مصطحبا بودي جاردات لحمايته” و”شاهد الفنانة الفلانية بالحجاب في عزاء النجم الفلاني”.
الجري وراء اخذ اللقطة والانشغال بعداد الريتش والتفكير فقط في كم اللايكات والشير التي يمكن تجميعها من صورة ابنه الفنانة الراحلة وهي تبكي على نعش أمها أو فيديو خروج الجثمان من الصندوق ونزوله إلى القبر.. هي أشياء لا يمكن أبدا إدراجها تحت بند الصحافة الفنية، وانما هي الفوضى في حد ذاتها حينما يتناسي الصحفي دوره في تغطيه حدث الجنازة والعزاء، وينسي الجوهر والهدف من وراء الخبر والصورة الصحفية وينسي أنه في حضرة موقف الموت هناك تأدب وقدسية وقبل ذلك انسانية واحترام لمشاعر أصحاب المصاب الأليم فلا يصح الاقتتال والتزاحم معهم للوصول لبوابة المدفن ولا تصح فكرة الافتتان بتصوير لحظات الانهيار والبكاء الصادقة بالصوت والصورة لتصدر الترند ولا يصح فتح “لايف” علي مواقع التواصل الإجتماعي للحظات الدفن واختراق خصوصية هذه اللحظات الصعبة والحساسة لأهل الميت، علاوة أن ذلك كله يحدث دون علمه وعلى غير موافقته وخلسة وسرقة عن طريق دس الموبايل بين الزحام وفتح الكاميرا والتسجيل لصالح السبق الصحفي!
أما ان تحدثنا قليلا عن المتلقي، فهل بالفعل نحن مفتونون بفكرة مشاركة اللحظة وإن كانت أليمة إلى هذا الحد، هل في الأمر ما يجعلنا متشوقين دوما لمتابعة علامات الحزن والدموع في عيون أصحاب العزاء، هل نحن إلى هذا الحد تعجبنا مسألة التلصص علي انهيار ابن الفنانة ودموع زوجة الفنان حتى تصارع المواقع الإخبارية وتتكبد كل هذا العناء لتنقل لنا أدق تفاصيل الجنازات الفنية وما يحدث فيها؟!
شاهد: سيف ياسر شاب يصوب الكرة بمهارة لافتة وينتظر الانضمام للأهلي أو الزمالك