كيرلس عبد الملاك
فيلم اتهم بليغ حمدي بالقتل
عامة الناس يشكلون أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم من الأعمال الفنية.. فما هو الحل؟
في مصر وأعتقد في كل العالم أيضا، قطاع كبير من عامة الناس أو قل غالبية البشر، يتأثرون بالأعمال الفنية الإعلامية والإعلانية على حد سواء حتى أنهم يعتنقون مذاهب ويغيرون توجهات خاصة بهم طبقا لمشاهد عابرة فيها محبوكة دراميا أو جذابة ترويجيا، لذلك تظهر ما تسمى بالموضة والتي يمكن تعريفها بأنها توجه شائع معاصر قد يتعلق بلفظ معين أو قطعة من الملابس أو حلية أو فكر أو توجه عام أو مُعتقد.. إلخ.
وهنا تكمن الأزمة وهي أن يتحول الخيال المحبوك والمسبوك درامياً إلى واقع في عقل المشاهدين فيتعاطون معه ويعتنقونه ويُخرجونه إلى مجتمعاتهم في شكل سلوكيات معينة يصعب تغييرها.
الحقيقة الغائبة عن عقول الكثيرين من سكان الأرض، والقطاع الأكبر من سكان مصر، هي أنه لا يوجد عمل فني، سواء كان أدبيا مكتوباً أو تمثيلياً معروضاً على الشاشات لا يحتوي على قدر من الخيال، حتى لو كان ذلك العمل تأريخياً فهو إما يضيف أو ينتقص من الحقائق، لذلك لا يمكننا أن نطلب الحقيقة كاملة من الأعمال الفنية، كما أننا لا يمكننا أن نأخذ معلوماتنا ونكوِّن مشاعرنا وسلوكياتنا الخاصة منها. العمل التمثيلي أو الروائي فضلاً عن أنه يمثل جزءاً من خيال المؤلف الذي يتضافر مع خيال المخرج والممثلين في صناعة الكلمات والصور المعروضة على الشاشة، فإنه من جهة أخرى لا يمكن أن يحتوي حتى على ربع عمر البشر الذي يستعرض قدراً من حياتهم.
للخروج من هذه الأزمة المتضخمة يوماً بعد يوم، أرى أنه على القنوات الفضائية ومنابر الفكر والثقافة أن توفر فكراً نقدياً للأعمال الفنية المكتوبة والمرئية، ليس نقداً فنياً فقط لكن نقداً فكرياً وموضوعياً أيضاً، حتى تجعل المشاهد يتخلص من حالة الانبهار الأعمى، كما عليها أن تعمل على تدريب المستمعين والمتلقين على الشك والتساؤل، ليس من منطلق مبدأ: “النقد بهدف النقد” لكن من منطلق مبدأ: “إحياء العقلية النقدية والقضاء على العقلية التلقينية” هذه العقلية التي طالما تسببت وتتسبب في مآسي لا حصر لها لمجتمعاتها بل وللعالم أجمع حيث أنها تنساق لما لا تعلم بمشاعر مغيبة.
إذن، لمذا لا يكون ذلك المبدأ المتعلق بإحياء العقلية النقدية مبادرة رئيسية تتبناها أية مؤسسة من مؤسسات الدولة مثل وزارة الثقافة؟ حتى يكون هناك أمل في ترسيخ الوعي لدى الأجيال المعاصرة والأجيال المقبلة، فنضمن مستقبل جيد لدولتنا مبني على الوعي وبعيد عن الاستغراق في التطرف الشعوري أو الفكري. مثل هذا المشروع يحتاج إلى باحثين متخصصين، غير متاجرين بالفكر والثقافة حتى يقوم بدوره كما ينبغي على أكمل وجه.
ولكي لا يكون هذا المقال مجرد كلام مرسل، سوف أستعرض مثال يؤكد أزمة الانسياق إلى أفكار الأعمال الفنية:
لم تقتصر بعض الأعمال الفنية على تغييب الوعي بل امتد أثرها إلى تغيير الحقائق وإدانة أبرياء وذلك تأثراً من صُناعها بأفكار معاصرة عاصروها وصدقوها دون أن يطلبوا دلائل قاطعة عليها، وهنا يتجلى فيلم “موت سميرة” الذي شارك فيه كل من كمال الشناوي ورغدة وإلهام شاهين، باعتباره نموذج لهذه النوعية من الأفلام المتهورة التي إن كانت تتبنى خيال يؤيد العقل الجمعي في وقت ما من الزمن لكنها أيضاً من جهة أخرى تروٍّج للظلم كما تروِج لسهولة توجيه الاتهامات وتلفيق الجرائم، وهي أزمة دائماً ما تبرز على سطح الأحداث خاصة على السوشيال ميديا مع كل ظهور لحادث أو جريمة ما.
فيلم موت سميرة صدر في عام 1985، بعد عام واحد من وفاة مطربة مغربية تدعى سميرة مليان حينما سقطت من شرفة منزل بليغ حمدي، وهنا اختلقت بعض الصحف المصرية قصصاً خيالية أكدت فيها اقتراف حمدي للجريمة، وجاء فيلم موت سميرة ليثبت التهمة على الموسيقار الشهير دون أية أدلة واقعية، بل مجرد خيالات تم ترويجها بين العامة ووصلت إلى عقول بعض المشاهير. وهذا ما دفع بليغ حمدي المظلوم إلى الهرب إلى باريس، وقد انكشفت براءته بعد مرور نحو 5 سنوات من وفاة مليان، تحديداً في عام 1990، بمساندة بعض مشاهير الممثلين مثل عادل إمام وصلاح السعدني. وربما بدون مساندتهم له ما خرج بريئاً أمام محكمة النقض.
الغريب في أمر هذا الفيلم “موت سميرة” أنه استطاع اختلاق قصة من وحي الخيال عن حادثة الوفاة، وإن كان قد لجأ إلى تغيير الأسماء الحقيقية لأبطال القصة في محاولة منه للهروب من أية مسائلة. لقد أكد ذلك الفيلم التهمة على الموسيقار الراحل فجعل من إثبات البراءة هدفاً صعب المنال.
إذن، إذا كنت تأخذ معلوماتك من الأعمال الفنية، وشاهدت فيلم “موت سميرة” قبل تبرأة بليغ حمدي من الجريمة، لن تشك للحظة واحدة أن حمدي بريئاً منها، وربما تهاجم من يحاول تبرأته وتتهمه بالمحاباة أو الجهل أو الفساد بينما أنت من تعاني من التطرف الشعوري الذي يخلق داخلك تطرفاً فكرياً يجعلك تظن أنك تمتلك الحق المطلق ولا تحتاج إلى أية أدلة حتى تحكم على القضية بنظرة واقعية.
على سبيل الطمأنة، أزمة التأثر بالأعمال الفنية من عامة الناس ليست متواجدة في مصر فقط بل في العالم كله، ولكن ربما تكون في مصر أكثر حدة بسبب انخفاض معدلات مواجهة ذلك التأثير.
حتى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أعظم دول العالم المعاصر في الرقي والتحضر لم تسلم من أزمة تأثر عامة الناس بالأعمال الفنية إلى حد المحاكاة، وهو ما ظهر بوضوح في تأكيد الجيش الأمريكي وجود تهديدات “ذات مصداقية” بحدوث إطلاق نار جماعي مع بدء عرض فيلم الجوكر، الذي صدر في عام 2019، في صالات السينما، مما دفع دور العرض في عدد من المدن الأمريكية إلى منع ارتداء الأقنعة، وطلاء الوجه، والملابس التنكرية عند عرض الفيلم، رغم أنه تقليد معروف عند إصدار أي من أفلام الأبطال الخارقين.
وقد نشرت صحيفة نيوزويك (newsweek) الأمريكية على موقعها الإلكتروني بتاريخ 14 أبريل 2017، تقريراً صحفياً تحت عنوان “Eight Horrible Real-Life Crimes That Were Inspired by a Movie or Novel” ومعناه باللغة العربية: “ثمان جرائم واقعية مروعة مستوحاة من فيلم أو رواية”، إحدى هذه الجرائم قيام شخص يدعى ناثانيال وايت بقتل ست نساء في أوائل تسعينيات القرن الماضي وقد كشف أن مصدر إلهامه في إقدامه على القتل هو فيلم أمريكي يدعى RoboCop. إذن فنحن أمام مشكلة عالمية وهي التأثر بالأعمال الفنية إلى حد المحاكاة ما يدعم أهمية نشر النقد الفكري للأعمال الفنية، وتدريب المشاهدين على القدرة على فلترة ما يعرض عليهم وفتح النقاش حوله. فيلم اتهم بليغ حمدي بالقتل
وفي دراسة بعنوان “Relationship Between Youths’ Attitudes and Beliefs Towards Violence in Foreign Movies”، ومعناه بالعربية: “العلاقة بين مواقف الشباب ومعتقداتهم تجاه العنف في الأفلام الأجنبية”، وقد توصلت هذه الدراسة الصادرة في عام 2020، إلى أن العنف المعروض في الأفلام يعتبر ترفيه كما أنه يعتبر حقيقة واقعية لمشاهدي هذه الأفلام، حيث أن التعرض المتكرر للعنف المعروض على التليفزيون يؤدي إلى قبول العنف الذي يظهر في مواقف وسلوك المشاهدين. وهو ما يشير إلى أن ترك الأعمال الفنية تسبح في أدمغة البشر دون نقد موضوعي لأفكارها، على أقل تقدير، سوف يجعل المجتمعات دائما على حافة الخطر.
قد يظن بعض المطلعين على هذا المقال أنني أطالب بالامتناع عن مشاهدة الأعمال الفنية أو زيادة السيطرة على محتواها، لكنني على العكس من ذلك أجد أن الحرية المقننة أو المسؤولة هي المطلوبة حاليا، خاصة في ظل انفتاح العالم أمام حرية صناعة المحتوى سواء كان مرئياً أو مكتوباً، فمن حق أي مبدع أن يخلق أي نوع من الإبداع بشرط أن يحرص على المصداقية على قدر استطاعته، خاصة فيما يتعلق بالأعمال الإبداعية التي تحاكي الواقع. أما ما يتعلق بترويج الادعاءات الكاذبة أو تلفيق الجرائم للأبرياء فهو اعتداء أرى أنه يستوجب المحاكمة. فليس من المقبول أخلاقيا أو قانونيا أن يؤلف أحدهم رواية أو فيلماً يدعم به اتهام غير مثبت أو يروج فيه ادعاءات كاذبة ليست لها دلائل قاطعة عن شخص أو مؤسسة ما.
أتذكر أنني حينما ألفت أول رواياتي والتي لم أكتب غيرها حتى الآن، 2045.. سبعة أيام في المستقبل، حرصت على أن أستهلها بتنويه بالغ الأهمية أكدت فيه أن الرواية خيالية لم تحدث في الواقع وإن كان من الممكن حدوث بعض أحداثها في المستقبل على سبيل نجاح التوقع، لأنني أدرك الآثار الوخيمة التي يمكن أن تظهر على مشاعر الإنسان إذا ما استغرق في تصديق الخيال وتوحد معه.
من الواجب على أي متابع للأعمال الفنية بكافة أنواعها أن يدرب نفسه على استقبالها بعين عاقلة لا بعين متعاطفة، بعين متسائلة لا بعين مصدقة، لكي يستطيع نقاش أفكارها بدون الانحياز الشعوري لها. أما من الجانب المؤسسي فأكاد أجزم أن مصر في حاجة ماسة إلى نقاشات مدروسة من باحثين في منابر الإعلام والتعليم تعمل على انتشال الناس من الخيال الذي يلوث أفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم في الحياة، ويصنع منهم كائنات ممسوخة، مُفرغة من محتواها السوي.