أندرو محسن
فيلم الإنس والنمس
محمد هنيدي كان الوجه الرئيسي للثورة السينمائية في نهاية التسعينيات، من بعد “إسماعيلية رايح جاي” (1997). حقق فيلمه الأول كبطل “صعيدي في الجامعة الأمريكية” (1998) نجاحًا ساحقًا في شباك التذاكر، لكن مع ازدياد المنافسة لاحقًا، ابتعد تدريجيًا عن الصدارة، نتيجة التذبذب الواضح في مستوى أفلامه، واستمر هذا خلال مسيرته، تارة يحقق نجاحًا جيدًا مثلما فعل بـ “رمضان مبروك أبو العلمين حمودة” (2008) وأخرى يتذيل إيرادات أفلام العيد مثلما حدث مع “عنتر ابن ابن ابن ابن شداد” (2017).
لكن هذا التغير في إقبال الجماهير على أفلامه، لم يقابله تغيرًا في حبهم لهنيدي نفسه، وهو ما نراه بشكل واضح في تحول الكثير من لقطات أفلامه إلى كوميكس، تُتَداول طوال الوقت على منصات التواصل الاجتماعي. إذن لماذا لا يحاول هنيدي استعادة ثقة الجمهور بفيلم جديد؟
بعد توقف حوالي 4 أعوام، يعود هنيدي بفيلم “الإنس والنمس”، ويتعاون مرة جديدة مع المخرج الكبير شريف عرفة بعد 17 سنة من تعاونهما السابق في “فول الصين العظيم” (2004). قصة الفيلم أيضًا لشريف عرفة الذي شارك كتابة السيناريو مع كريم حسن بشير.
تدور أحداث الفيلم عن تحسين (محمد هنيدي) الذي يتعرف على نارمين (منة شلبي) ويرغب في الارتباط بها لكنه يكتشف أنها عفريتة، وأن أسرتها، أسرة النمس، ترغب في تزويجها له، للحصول على نسل من الإنس، ثم الخلاص منه.
يعرفنا الفصل الأول على تحسين وأسرته التي يعيش معها في البيت واحد، أمه (عارفة عبد الرسول) وأخته (دنيا ماهر) وزوجها (محمود حافظ)، قبل أن ننتقل سريعًا إلى الحادث الذي أدى إلى تعرفه بنارمين وأسرتها من العفاريت، أمها آسيا (صابرين) وشقيقها قنديل وخالها كبير الأسرة شهاوي (عمرو عبد الجليل).
تدور الأحداث خلال هذا الفصل بشكل سريع، مع محاولات لا تتوقف لصناعة الكوميديا، جاء بعضها جيدًا مثل مشهد دخول أفراد أسرة تحسين إلى الحمام واحدًا وراء الآخر، والبعض الآخر جاء مستهلكًا مثل مشهد الطبيب العصبي في المستشفى.
هذا التبدل في مستوى الكوميديا استمر طوال مدة الفيلم تقريبًا، وإن استفاد صناع الفيلم بشكل جيد من ظهور شخصيتين جديدتين في وقت متأخر من أحداث الفيلم، ساهما في إضافة بعض الكوميديا، خاصة بيومي فؤاد في دور العفريت أشموح.
هنا يمكن التوقف عند توظيف الممثلين وتحريكهم من قبل المخرج الكبير شريف عرفة الذي طالما قدم لنا شخصيات ثانوية خالدة. نجده هنا يفتقد هذه اللمسة، من الصعب الخروج من “الإنس والنمس” وهناك شخصية بعينها باقية في الذاكرة، مثلما كانت شخصية اللمبي من “الناظر” أو الجد جابر الشرقاوي من “فول الصين العظيم” مثلًا. بعض الممثلين لم يقدموا الأداء المطلوب للشخصية، مثل صابرين التي كانت تقدم أداء حادًا بشكل غير مناسب لطبيعة الشخصية في فيلم كوميدي، خاصة إذا ما قورنت بأداء عمرو عبد الجليل أمامها الذي نجح في ضبط أداؤه، حتى لا يغرق في الكوميديا بما لا يتماشى مع طبيعة الشخصية، ولا يغرق في الشر بما لا يتناسب مع طبيعة الفيلم.
على الجانب الآخر سنجد بعض الشخصيات التي نشعر أن وجودها كان عبئًا على الفيلم، مثل شخصية أخت تحسين التي تظهر في مشاهد معدودة غير مؤثرة على الإطلاق، والأمر نفسه ينطبق على شخصية أم تحسين، وكان يمكن اختزالهما في شخصية واحدة، وإن كان أداء عارفة عبد الرسول قد جعل مشاهدها أفضل بكثير من مشاهد دنيا ماهر.
ألف ليلة وليلة
في أحد مشاهد الفيلم يقف تحسين داخل القصر الفخم لعائلة النمس ويبدي إعجابه قائلًا أن المكان يشبه ما كنا نشاهده في مسلسلات “ألف ليلة وليلة”. هذا الوصف دقيق جدًا، ولكن الأزمة أن “ألف ليلة وليلة” كانت ذروة نجاحها في التسعينيات، وبالتالي محاكاة ما كانت تقدمه هذه المسلسلات في 2021 هو أمر غير مطلوب، وللأسف كان هذا حاضرًا بقوة في ما يخص الطابع البصري للفيلم.
أبرز المشاهد التي نشعر معها أن الديكور خارج الزمن، هو مشهد القبو الذي يضم قاعة اجتماعات أسرة النمس. يبدو واضحًا أن الديكور “ديكورًا”، يفتقر للأصالة سواء على مستوى الفكرة أو التنفيذ، صخور سوداء بجوار حمم بركانية، تظهر وكأنها خرجت للتو من تحت يد منفذي الديكور.
هذا الضعف في الابتكار يمتد إلى الكثير من نواحي الفيلم للأسف، رغم طرافة فكرة الفيلم وكونها غير مستهلكة، بما يسمح بصناعة الكثير من الأفكار الجديدة والطازجة. المثال الأبرز على هذا هو شكل الرقصة التي تؤديها أسرة النمس، والتي يمكن مشاهدتها في الإعلان، صفقتين ثم الصراخ “هااا”. إن المجهود المبذول لإخراج رقصة عادل إمام على سطح السيارة المرسيدس في “اللعب مع الكبار” (1991) بالتأكيد ضم خيالًا أوفر مما شاهدناه في إخراج رقصة “الإنس والنمس”.
عزز هذا شعورًا بأن الفيلم كان يمكن أن يكون له وقعٌ أفضل، لو كان قد عرض في التسعينيات، حينما كانت هذا الشكل من الخدع والديكورات مقبولًا.
مقدمات بلا نتائج
هناك كشف لبعض تفاصيل الفيلم في السطور التالية.
تبلغ مدة الفيلم ساعتين تقريبًا، كان الفصل الأول أكثرها تماسكًا في إيقاعه، بينما يستهلك الفصل الثاني وقتًا أطول من اللازم للدخول في الحبكة، في حين كان الفصل الثالث أفضل مع تتابعات النهاية.
نجد أن الكثير من هذه الأحداث كان يمكن اختصارها ليصبح إيقاع الفيلم أفضل أولًا، ولعدم تقديم ثغرات وأسئلة ليست لها إجابة ثانيًا. تبدأ هذه التفاصيل غير المؤثرة مع المشهد الأول للفيلم: تحسين مديرًا لبيت الرعب في الملاهي، مشهد طويل يصطحب فيه تحسين مفتشة حتى تقيم وضع بيت الرعب وتمنح المكان الرخصة. هل كان سيختلف الوضع كثيرًا لو كان تحسين موظفًا في مصلحة حكومية؟ أو محاسبًا في سوبر ماركت؟ ربما حاولت المقدمة ربط المشاهد مع تيمة الرعب، ولكن هذا التمهيد الطويل كان يجب أن يُوظف بشكل أفضل، إذ ننسى تمامًا وظيفة تحسين بمجرد انتهاء هذا التتابع الافتتاحي.
أشرنا من قبل أن الفصل الأول شهد تقديم أسرة تحسين وأن أفراد الأسرة لم يُوظفوا بشكل جيد، الأكثر من هذا أنه مع ذهاب تحسين لأسرة النمس، نشعر وكأن أسرته لم تظهر في الأحداث من الأساس فهو يعيش في قصر النمس لعدة أيام ثم يعود إلى أسرته ليدعوهم إلى حفل زفافه وسط حالة من الاندهاش وكأن غيابه بالأيام في حد ذاته لم يكن غريبًا بالنسبة لهم، وفي المقابل لم نجده يفكر ولو للحظة واحدة في دعوة أسرته لمشاهدة هذا القصر الغريب، أو حتى يخبر أمه من قبل أنه يفكر في الزواج.
ثم نصل إلى أغرب خطوط الفيلم وهي خط الأب (شريف دسوقي) الذي يظهر فجأة لتحسين ليخبره بأهمية عدم إقامة علاقة جنسية مع نارمين لأن هذا هو غرض أسرة النمس، ومن بعدها سيتخلصون منه. يحكي الأب قصة طويلة عن سبب غيابه، لماذا لم يحاول التخلص من أسرة النمس من قبل رغم أنه يعرف الشخص الذي معه التعويذة؟ ولماذا لم ينبه تحسين إلا في ليلة زفافه رغم متابعته له منذ مدة؟ وما قيمة الخط الخاص بمحل الأب الذي يحاول تحسين إعادة فتحه منذ البداية؟ جميعها أسئلة لا نجد لها إجابة داخل الفيلم، أو نجد لها إجابات غير مقنعة.
يبقى سؤال مهم بلا إجابة وهو الخاص بما يبدو كهدف للفيلم، من خلال الحوار نستشعر أن أسرة النمس تمثل جانبًا سيئًا، عدوًا أو قوة ما تحاول أخذ أفضل ما في الإنس ثم القضاء عليهم، وهو ما نجده في حوار “النماسية” وحوار والد تحسين أيضًا. هكذا تصبح معركة الإنس والنمس أشبه بمعركة بقاء. لكننا نجد أن حتى الأشرار في داخلهم جانب جيد، نشاهده في نارمين وقنديل، لكن هل يكفي هذا الجانب الجيد لإفلاتهم من التعويذة التي قضت على كل أسرة النمس؟ سؤال آخر يبقى بلا إجابة مع نهاية الفيلم.
هذه التفاصيل غير المنطقية ربما كانت تحتاج إلى إعادة نظر من كاتبي السيناريو لجعل الفيلم أكثر تماسكًا وأكثر منطقية من الصورة التي خرج بها.
رغم هذه المآخذ، يظل الفيلم عمل كوميدي مقبول إلى حد كبير، وإن أضاع صناعه فرصة لإخراجه بصورة أفضل، كنا نود أن نراه منذ عدة سنوات، لربما كان وقعه ضمن أفلام هنيدي ليكون أفضل، ولربما كانت أفكار الفيلم آنذاك لتبدو أكثر أصالة، ولكن في جميع الأحوال مرحبًا بهذه العودة المنتظرة لمحمد هنيدي.