كيرلس عبد الملاك ـ يكتب في طريق الوعي
الخلط بين المفاهيم والمصطلحات من أبرز المشكلات التي تواجه عامة الناس وهم في طريقهم إلى المعرفة في العموم، فمن المعلوم عن المجالات العلمية أنها تحتاج إلى دقة الوصف لكي تضع كل مصطلح وكل تعريف في موضعه الصحيح ومن ثم تكون المعلومة منضبطة. ومن بين أهم المجالات التي تحتاج إلى الدقة والعمق مجال المعرفة التاريخية الذي يُمكِّن الإنسان من معرفة الماضي ومن ثم يمنحه القدرة على استقراء الحاضر والاستعداد للمستقبل.
في مجال المعرفة التاريخية يخلط الكثيرون بين المؤرخين والباحثين التاريخيين ولا يعرفون الفرق بينهم، فتكون النتيجة اعتبار رؤى بعض الباحثين من قبيل الحقائق التاريخية. بل هناك خلط آخر أشد خطراً وهو الخلط بين قاريء بعض الكتب الذي يمتلك القدرة على استعراض قراءاته أمام الناس سواء من خلال الكتب أو من خلال وسائل الإعلام وبين باحث التاريخ الذي يستطيع إجراء بحثاً تاريخياً منضبطاً من الجانب العلمي. هذان النوعان من الخلط أو الاختلاط المفاهيمي يؤديان إلى انتشار معلومات وأفكار تاريخية غير صحيحة أو غير دقيقة في ثوب الحقائق التاريخية من خلال الكتب غير العلمية والأحاديث الإعلامية والصحافية التي تتبنى قراءات بعض القراء ورؤى بعض الباحثين التاريخيين وتضعها في إطار الحقائق التاريخية. وبسبب هذه التشوهات المعرفية التي تقترن بها معاناة المجتمع من العقلية التلقينية يصبح تصحيح المعلومات التاريخية أمر صعب المنال، خاصة مع ارتباط هذه المعلومات بانتماءات وأيديولوجيات.
ما لا يدركه قطاع كبير من متلقين قصص التاريخ أياً كان منبع تلك القصص، أن الذين يسردون التاريخ ليسوا بالضرورة باحثين في التاريخ فكثيراً ما يكونون بعيدين عن الحقيقة التاريخية حيث يتبنون انتماءاً معيناً يؤثر على سردهم للتاريخ، بالإضافة إلى أن كثير من الباحثين التاريخيين يخطيء في التقدير إذا أصيب بحثه بالانحياز أو عدم الإلمام، فضلاً عن أن المؤرخين أنفسهم معرضين للخطأ ونشر الأكاذيب في حالة تبنيهم لقصص لم تثبت صحتها بأدلة قاطعة.
أتذكر تلك الفتاة التي وجدتها تعلق على إحدى الروايات الشهيرة المؤلَّفة من خلال موقع متخصص في مراجعة الكتب، وتعتبر ما ورد في تلك الرواية من قبيل الحقائق التاريخية التي لا شك فيها، حيث كانت تعلق على أحداث الرواية كأنها تعلق على أحداث تاريخية حقيقية، حينها ناقشتها وفشلت في تحرير عقلها من الخلط بين رواية تستعرض أحداثاً تاريخية في إطار من الخيال وبين رواية تاريخية أجمع عليها المؤرخون.
هيرودوت وأكاذيب التاريخ:
من أبرز الأمثلة على التشكك في صحة كتابات المؤرخين، مؤلفات المؤرخ هيرودوت التي اكتسبت شهرة واسعة في العالم كله، حتى وُصف هيرودوت بـ “أبو التاريخ” من قبل أحد الكتاب اليونانيين الذي يدعى “شيشرون”، بينما وُصف بـ “أبو الأكاذيب” من مؤرخ يوناني آخر يدعى “بلوتارخ”.
بالاستناد إلى رسالة علمية، صادرة في عام 1999، بعنوان “Rhapsodes of Social Science: Herodotus’ Performance of Politeic Inquiry” ومعناه بالعربية: “قراء القصائد الملحمية في العلوم الاجتماعية: آداء هيرودوت للتحقيق المهذب”، نجد أن الباحث يشير إلى أن هيرودوت اختلق العديد من رواياته، حيث أنه خلط بين الحقيقة والخيال، والأكثر من ذلك أن الباحث يؤكد أن انتشار وشهرة هيرودوت لا ترجع إلى مصداقيته بل إلى أسلوبه السردي الجذاب، أي أن من يقرأ له لا يقرأ له بسبب مصداقيته أو سرده للحقيقة لكن لأنه يستمتع بأسلوبه في الكتابة. ومن هذا الاكتشاف البحثي يتضح أن أعمال هيرودوت التأليفية أقرب إلى الروايات الخيالية المستوحاة من أحداث تاريخية حقيقية، لذلك فمن غير الحكمة أن أتخذ هذه الروايات باعتبارها تعبر عن حقائق لا جدال فيها.
كم من مؤرخ أخذ معارفه التاريخية من هيرودوت؟ وكم من إنسان بنى معرفته الشخصية على ما تعلمه من كتب مأخوذة عن هيرودوت؟ إنها كارثة معرفية بكل ما يحمله الوصف من معنى، لأن المعرفة التاريخية تؤسس لمعرفة الحاضر والتخطيط للمستقبل، إنها تبنى هويات البشر وتشكل الثقافات والتوجهات والاعتقادات البشرية.
إذن حتى قراءة كتب التاريخ الصادرة عن مؤرخين معاصرين لابد أن تقترن بالفرز والتحليل والتساؤل والبحث عن الحقيقة، إنما اتخاذ المعرفة من مؤرخ واعتبارها حقيقة لا تقبل الشك سلوك خطير على عقل الإنسان ومعارفه ومن ثم يمثل خطورة على سلوكه، لأن أفكار الإنسان تساهم في تشكيل سلوكه.
كيف نتعامل مع مصادر المعلومات التاريخية؟
على متلقي المعلومات التاريخية أن يفترض احتمالية خطأ أو كذب ما يُعرض عليه من معلومات، سواء عبر الإعلام المرئي أو المكتوب، فلا يعتبر ما يعرض عليه حقائق لا تقبل الشك ولا يتخذها جزءا من التراكم المعرفي الخاص به فيبني عليها ثقافته وتوجهاته وانتماءاته. من واجباته أن يلجأ إلى البحث بنفسه أو اللجوء إلى الأبحاث العلمية النزيهة والموثقة لكي يتأكد بنفسه من صحة ما عُرض عليه من أفكار ومعلومات، فإذا كان المؤرخين المعاصرين للأحداث التاريخية، وأبرزهم هيرودوت، من الممكن أن يكذبوا أو يخلطوا الخيال بالواقع فما هو حال قاريء التاريخ الذي يستضيفوه في الإعلام تحت مسمى الباحث التاريخي أو المؤرخ على غير الحقيقة ليستعرض ما يدعي قراءته من مصادر تاريخية؟!
هذا الأمر يحتاج إلى الاستيقاظ الدائم من قراء الكتب ومتابعي الإعلام من جانب، كما يحتاج إلى الأسلوب المدروس في استعراض المعلومات التاريخية من قبل مسؤولي قنوات الميديا المرئية والمكتوبة على حد سواء والسماح بالنقد المدروس للمعلومات التاريخية التي يتبناها مشاهير الكتاب. وهذا ما نفتقده في مصر إلى حد كبير بسبب الخلط بين المسميات والمصطلحات وحالة العشوائية الفكرية التي ترسخ لها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وتُحرض عليها مواقع التواصل الاجتماعي بفتحها الباب أمام كل من هب ودب ليمنح المعرفة للناس في أمور لم يلم بها ولم يتعمق فيها العمق اللازم.