في محاولة منها لتوثيق حياة الفنانة سناء جميل، من باب رد الجميل والامتنان والعرفان لجهدها العظيم في الفن المصري، تقدم المخرجة روجينا بسالي كتاب “حكاية سناء” الصادر عن دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع، والذي تعتبره بمثابة إحياء لذكرى الفنانة القديرة من جديد، ليس فقط بين العاملين في الوسط الفني، بل للجمهور العادي من الأجيال الجديدة والقديمة، لفنانة ظُلِمت نقديا وإعلاميا ولم تنصفها سوى محبة المخلصين والمقربين.
بدأت قصة الكاتبة مع سناء جميل، حين توفيت الأخيرة في وقت كانت فيه الأولى لا تزال طفلة في المرحلة الإعدادية، وتابعت عبر وسائل الإعلام تغطية الجنازة آنذاك، ليبقى من هذا اليوم في ذاكرتها مشهد تمسك الكاتب لويس جريس بنعش زوجته رافضا نزولها المقبرة وسط صياحه المؤلم “سيبوها ماتنزلوهاش”.
يمر العمر لكن لا تنسى الكاتبة ما أثاره هذا المشهد من تساؤل متكرر في نفسها منذ الطفولة، تُرى ماذا فعلت هذه السيدة حتى جعلت زوجها يتعلق بها بهذا الشكل؟ يستمر العمر في المضي قدما، والتساؤل يظل عند حاله القديمة، لكن تشاء الأقدار أن تأتي الإجابة بطريقة غير متوقعة، وبصدفة قَدَرية بحتة، حين تصطدم برجل عجوز يتكئ على عكاز في المعهد العالي للفنون المسرحية (الذي كانت تدرس فيه وقتها)، لتتفاجأ بأن الرجل المهندم الذي اصطدمت به عن طريق الخطأ هو الكاتب الكبير لويس جريس، زوج الفنانة الراحلة سناء جميل.
تتوطد العلاقة بينهما، وتتعرف من خلاله وبالبحث والقراءة والمشاهدة والحكايات على سناء جميل الحقيقية، تلك التي لفتت انتباهها لأول مرة في يوم وفاتها، لكنها في المقابل أهدتها عُمرًا من الفن والحكايات المثيرة للاهتمام التي تارة ما تكون مفرحة ومحزنة، ومرّات شاقة وطيّعة، ومرّات أكثر قاسية وحنونة.. كصفات سناء تماما.
يؤرخ الكتاب قصة سناء جميل، أو ثريا يوسف عطا الله (كما هو مسجل في الأوراق الرسمية)، منذ لحظة ميلادها في ملوي بمحافظة المنيا عام 1930، وصولا لوفاتها في 22 ديسمبر 2002، حيث تمر روجينا بسالي على محطات حياتها بالتفصيل، تحكي وتروي أحداثا وشهادات وتثير تساؤلات ليفكر معها القارئ في الإجابة، تمنحه دوما خيارات لقراءة الأحداث بالطريقة التي يريدها ويتوقعها.
صحيح أن الكاتبة تروي وتسرد كل ما توصلت له من أحداث وتفاصيل، لكنها في الوقت ذاته تمنح القارئ ميزة المشاركة بالتحليل، فهي لا تكتفي بالرصد فقط، بل تحلل الأحداث وتثير التساؤلات حول كل محطة من محطات حياتها، والأهم أنها توضح بدقة مصدر كل معلومة، حتى تلك التي بلا دليل قوي أو مجرد روايات متكررة لم تصل لدليل يثبتها بعد، توضح أنها مجرد معلومة متداولة أو أنه رغم وجود مصدر موثوق لها إلا إن هناك ما ينفيها بالدليل القاطع وهو كذا كذا.. إلى آخره من الشرح والتوضيح لأصل ومدى درجة توثيق كل معلومة، مما يصنع حالة من المصداقية المتبادلة بين القارئ والمؤلفة.
يحتوي الكتاب على صور هامة ونادرة للفنانة الراحلة في مراحل عدة من حياتها، ومع شخصيات هامة ومن مواقف مختلفة، أغلبها لم يرها القارئ من قبل، فهي توثيق من أرشيف الصحافة عنها داخل وخارج مصر، لدرجة أنه موجود صورة من أول خبر صحفي كتب عن سناء جميل، فضلا عن وجود وثائق هامة مثل مستخرج شهادة ميلادها، وخطاب انتدابها للعمل كمستشارة فنية في المسرح القومي، وغيره الكثير.
يبرز الكتاب كيف أن السينما لم تستفد كثيرا من قدرات سناء جميل التمثيلية، فعلى الرغم من الرحلة الفنية الطويلة إلا أن أعمالها السينمائية قليلة مقارنة بحجم موهبتها الجبارة أو بأعمالها في الوسائط الأخرى، أو حتى برصيد أعمال زميلاتها من نفس الجيل، لكن في المقابل حصدت تألقا كبيرا في الدراما التليفزيونية. كما يرصد أيضا قصة تجربتها الأولى والوحيدة في الإعلانات التي وصفتها بأنها “العيب الذي لن يتكرر”.
لا يكاد الكتاب يترك معلومة عن سناء جميل لم يتم ذكرها، فهو أرشيف متكامل لكنه تم في صياغة وترتيب وتحليل سلس ومترابط، يروي لك ماذا حدث وماذا قالت وماذا فعلت وماذا قيل لها وعنها وكل شيء متعلق بها وبمن حولها، كل ذلك مدعما بالوثائق والمستندات والصور، وتجميع مقالات كبار الكتاب عنها، فضلا عن رصد قائمة كاملة دقيقة بكل أعمالها.
وبخلاف دقة الرصد والتوثيق وجهود البحث الواضحة في الأرشيف، إلا أنه من مميزات الكتاب طريقة السرد وربط الأحداث في شكل قصة تبدأ وتنتهي بالسؤال عن العائلة، وسبب مقاطعتهم لابنتهم وتخليهم عنها بهذا الشكل، لدرجة أنه في لحظة وفاتها انتظروا ظهور العائلة، وترك لويس جريس الجثمان في ثلاجة الموتى حتى ينتشر الخبر لكل المحافظات، ويعلم الجميع بوفاة سناء جميل، كي تظهر العائلة وتلقي عليها نظرة الوداع الأخيرة، لكن لم تفارقها مشاعر الخذلان حتى بعد الوفاة.. ثلاثة أيام ترك فيها الجسد دون دفن.. ثلاثة أيام ولم يحضر منهم أحد.
“رغم كل شيء ورغم العذابات أنا سعيدة بحب الناس، فقد عشت حياة مليئة بالعذاب والحب والجمال والضحك والسعادة، ويكفي أنني عشت مع شعب عظيم وزوج كريم يتحمل عصبيتي، أنا عصبية جدا ولكن لا يسكن قلبي كراهية لأحد، أنا مبسوطة جدا، مشواري والحمد لله كان جميلًا”… سناء جميل.