القافية المصرية
ذهبنا في مقام قريب تحت عنوان “سلاسة اللهجة المصرية” إلى أنه “فيما يتعلق باللهجة المصرية، فإن سهولتها وسلاستها على المستوى العربي ليست محل خلاف بقدر يذكر، وذلك بطبيعة الحال ليس استناداً من كل فرد عربي في القياس إلى لهجته الأم أو حتى لهجة بلد شديد الالتصاق به وإنما على النطاق العربي العام، وأيضاً دون أن ننسى نسبية الحكم واستحالة الاتفاق المطلق عليه”.
وأضفنا: “تبدو المرونة التي اتصفت بها الشخصية المصرية أهم ما يمكن تبيّنه من الأسباب التي أكسبت العامية المصرية سهولتها – بقدر ما يمكن الاتفاق نسبياً على ذلك – وسلاستها التي تجلّت في قبول العرب لها عندما انسابت إلى حياتهم على أكثر من صعيد. ومرونة اللهجة المصرية تعني أنها استجابت للمؤثرات التي داخلتها فقبلت حتى الأخذ عن الجاليات التي وفدت عليها في جماعات قليلة وليس على شكل هجرات جماعية، بل أخذت حتى عن الجاليات غير العربية ومصّرت ما أخذته من كلمات وتعابير”. وبعد ما أسميناه بالسياحة “التي طوّفت بنا حول أكثر من مدار ثقافي وحضاري وطوّحت بنا في غرب الدنيا وشرقها” انتهينا إلى أنه “يظل الثابت أن العامية المصرية قد اخترقت بالفعل آذان العرب وحياتهم الاجتماعية خاصة كما لم تفعل عامية أخرى، وذلك بغض النظر عمّا يمكن الاتفاق عليه أو الاختلاف حوله من الأسباب، وهي أسباب كما ألمحنا ليست بعيدة على كل حال عن الأسباب التي أكسبت الشخصية المصرية خصوصيتها الفريدة على النطاق العربي تحديداً”.
والحال كتلك، تبدو “القافية المصرية” تجلّياً لعمق اختراق اللهجة المصرية لآذان ووجدان العرب الذين لم يستوعبوا العامية المصرية بصفة عامة فحسب وإنما استوعبوا دقائقها ومختلف فنونها، ولم يقف الأمر عند فنون القول المعروفة كالشعر والأقوال السائرة على سبيل المثال وإنما شمل سمات بالغة الخصوصية كـ”القافية” التي تحتلّ مكانة عميقة في يوميات المصريين على عكس ما تبدو عليه لمن يطالع صورتها في الحياة المصرية على عجل فلا يرى أكثر من دعابة سطحية تبدو مبتذلة في كثير من الأحيان.
أكثر من كونها مرتبطة بسلاسة العامية المصرية وسائر خصوصياتها اللغوية، تبدو “القافية” أشدّ التصاقاً بالروح المصرية بصفة عامة وبـ”الصوت” تحديداً كما عرضنا له بوصفه مكوّناً أساساً يمنح الشخصية المصرية حيويتها التي تُعدّ بدورها من أظهر سمات المصريين. فقد ذهبنا تحت عنوان “الصوت عميقاً في الحياة المصرية” إلى أن “الدلالة الأبلغ للصوت في حياة المصريين لا تكمن في صدق وعيده – أو تباشيره – عندما يتطلّب الأمر وتملك الشخصية المصرية الأدوات اللازمة عملياً للوفاء بما تنذر أو تبشّر به. دلالة الصوت العظمي في حياة المصريين تتجلّى في كونه هو ما يضفي على مصر سحر حيويتها الخاص، بل إنه يمثّل أبرز مكوّنات تلك الحيوية”.
بل ذهبنا في ذلك المقام إلى ما أوشكنا من خلاله أن نعيد تعريف “الضجيج” نفسه ليستوعب ما هو إيجابي في سياق أثر “الصوت” الطاغي في الحياة المصرية: “لمظاهر الضجيج الصوتي عموماً آثار لا تخلو من تجليات إيجابية عند المصريين، ولبضعة أصوات بعينها آثار أبعد عمقاً وأسلس انسياباً وأشد قبولاً وألفة في مصر، سواء من قبل المصريين أنفسهم أو مَن يحلّ عليهم ضيفاً عابراً أو مقيماً لردح من الزمان. أصوات الباعة في الشوارع، والأصدقاء يتنادون في الطرقات، وترجيع المغنين والمغنيات متعالياً عبر نوافذ البيوت المشرعة وساحات المقاهي الشعبية، ، كل تلك الأصوات تتضمن قدراً من التجاوز بما قد يدخلها ضمن تصنيفات الضجيج على هذا المعيار العالمي وذاك، لكنه في كل الأحوال ضجيج لا يُكسب الحياة المصرية سمة مميزة فحسب وإنما ينساب مستساغاً في معظم الأحيان لدى المصريين، إلى درجة أن من يضيق به – سواء من المصريين أو من ضيوفهم الذين يفدون عليهم حباً وكرامة – يُعدّ استثناءً، حتى إذا كان ذلك الاستثناء هو الصواب وفق المعايير العالمية لقياس الضوضاء”.
“القافية” ليست صوتاً فحسب، بل فنّاً من فنون القول المصرية يستوعب كثيراً من أشكال المحسّنات اللفظية والمعنوية والبلاغية بصفة عامة. وهو موهبة تتطلّب استعداداً فطرياً بدرجة ما، شأنه شأن أية موهبة أو سمة شخصية. ولأنها مباراة لفظية “على الهواء” فإن أهم أدوات “القافية” سرعة البديهة، لكن المخزون الثقافي العامي – واللغوي تحديداً – ضروري لإسعاف البديهة من أجل الاستجابة الفورية للرد المفاجئ من الخصم. وإذا كانت النساء هنّ الأشهر في “حلبات القافية” بما يفتح أبواب المنافسة على كل مصراع ممكن بحسب السياق الاجتماعي والثقافي للمتباريات، فإن للرجال نصيباً لا يقلّ أهمية وإنْ قلّ حدّة واستعاراً لا ريب.
تدمج “القافية المصرية” أداتين معاً من أدوات تأكيد الحضور في المجتمع المصري، لا سيما طبقاته العامة، وهما أداتان عميقتا التأثير كما أشرنا: الصوت والمهارة اللغوية. وبذلك تكاد القافية تكون فن الخطابة الموجز جداً خاصة لدى من يشار إليهم في الحياة الاجتماعية بمصطلح “البسطاء”، لكن “القافية” لا تعدم حضورها البارز بدرجة أو أخرى لدى معظم فئات المجتمع، وذلك بما يناسب كل فئة من أسلوب التناول والقبول.
في “المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم” يقول المستشرق والمترجم والكاتب البريطاني إدوارد وليم لين Edward William Lane ، نقلاً عن كتاب “التكيف والمقاومة” للدكتور محمود عودة، يقول لين: “ويميل المصريون خاصة إلى الهجاء، وكثيراً ما يظهرون ذكاءً في تهكمهم ومرحهم، وتساعدهم اللغة العربية على استعمال التورية والحديث المبهم الذي يتهكمون فيه بكثرة”.
لا أظن أن السيد لين كان يعني شيئاً بكلامه أعلاه أكثر مما يعني “القافية” تحديداً، وهو ما يتأكد بمزيد من الاقتطاف عن كتابه الهام فيما يلي مما برع عبره المستشرق البريطاني في الالتفات إلى مزيج “المجاملة والرقة والوقار والمهارة والسلاسة والذكاء والطلاقة واللسان اللاذع”، كل ذلك بما يشمل طبقات المجتمع المصري كافة، وهو مزيج فريد من “التناقض المتجانس”، وأرجو ان يجوز التعبير، الذي يكسب المصريين مزيداً من الفرادة. عن المصريين المحدثين في النصف الأول من القرن التاسع عشر يواصل لين: “ويجامل المصريون بعضهم بعضاً إلى أقصى حد. ولتحيتهم وسلوكهم العام رقة ووقار خاصان ومهارة سلسة تبدو أنها في طبيعتهم لملاحظتها في الفلاحين أيضاً، ويتفاخر أهل المدن من الطبقتين الوسطى والعليا بحسن الأدب ورشاقة المنهج وقوة الذكاء وطلاقة اللسان، إلا أنهم ليسوا أقلّ خلاعة في أحاديثهم من مواطنيهم الأقل تربية”.
“القافية المصرية” إذن أعمق أثراً في الحياة المصرية من مجرد “وصلة ردح” بين جارتين متشاجرتين “على سبب هايف” كما قد يخال من يمرّ على يوميات المصريين مروراً سطحياً. إنها نمط من أنماط تأكيد الوجود لدى الشخصية المصرية متعدد الأوجه والأبعاد بحسب ما يقتضيه السياق.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])