التقاليد المصرية
“وهناك احتمال بأن عملية غرس التقاليد تمت في كل مكان وزمان، ولم تخل حقبة زمنية أو حيز مكاني منها. لكن علينا أن نتوقع حدوث غرس للتقاليد بشكل أكثر كثافة وتكراراً عندما تؤدي سرعة التحول المجتمعي إلى إضعاف (أو تدمير) الأنماط الاجتماعية التي قامت من أجلها التقاليد القديمة؛ أو ظهور أنماط مجتمعية جديدة لا تنطبق عليها التقاليد القديمة؛ أو أن تصبح التقاليد القديمة ومؤسسوها ومروّجوها غير قادرين على إبداء المرونة والتكيف؛ أو أن يتم القضاء على التقاليد القديمة بأي سبب آخر؛ أو عند حدوث تغييرات كبيرة في ساحة العرض والطلب”.
يواصل إيريك هوبزباوم في الفصل الأول من كتاب “اختراع التقاليد: دراسة في نشأة التقاليد ودوافعها وتطوراتها” الصادر عن دار الكتب الوطنية بهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة عام 2013 بالتنسيق مع مطبعة جامعة كامبريدج، من تحرير إيريك هوبزباوم Eric Hobsbawm وتيرينس رينجر Terence Ranger وترجمة أحمد لطفي، يواصل هوبزباوم: “ولما كانت التغيرات المجتمعية قد أصبحت شديدة الكثافة في المائتي سنة الماضية فقد أصبح من المنطقي أن نتوقع ظهور الكثير من التقاليد الجديدة في هذه الفترة. وينسحب ما سبق على الحركة الليبرالية في القرن التاسع عشر وعلى نظرية “التحديث”، ما يجعل عملية تشكّل التقاليد غير قاصرة على ما يسمّى بالمجتمعات “التقليدية”، ويتعداها إلى المجتمعات “الحديثة”. وبشكل عام هذه هي الحال، لكن على المرء أن يحذر من افتراضين؛ أولهما: أن الأنماط المجتمعية القديمة وهيكل السلطة والتقاليد المرتبطة بهذه الأنماط أصبحت غير قابلة للتكيف وغير قادرة على البقاء، وثانيهما: أن التقاليد “الجديدة” نتجت عن العجز عن استخدام التقاليد القديمة أو تكييفها لتناسب الواقع الجديد. وقد حدث التكيف من خلال استخدام الأنماط القديمة في ظروف جديدة ولخدمة أغراض حديثة. فالأعراف القديمة ذات الوظائف الراسخة تشير إلى الماضي، لذا فإن التعبيرات والممارسات الطقسية تحتاج إلى التكييف مع المستجدات”.
ذلك اقتطاف من مقدمة جميلة وعميقة عن “اختراع التقاليد”، وهو تعبير دقيق يشير إلى “الحقيقة” الصادمة على عكس ما يعتمل في خواطر الناس بصفة عامة من أن التقاليد ذات بعد “أزلي” يجب أن يستمر إلى “الأبد”. الاعتقاد الشائع بأزلية وأبدية التقاليد راسخ على ما يبدو في كل مكان، لكنه ربما كان أكثر انتشاراً في الشرق بصفة عامة، ولدى العرب بصفة أكثر خصوصية. غير أن التقاليد كثيراً ما تبدو مراوغة عند النظر إليها من منطلق الثبات والتغيّر، أو الجمود والمرونة، أو حتى التقديس والتهاون. فالتقاليد لا تتغير عند المنعطفات التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية فحسب، وإنما يمكن أن تنكسر في غضون الجمود بصورة فردية أو بأشكال جماعية مختلفة، لا لتشكّل تقاليد جديدة في الغالب وإنما لتعبّر فقط عن ثورة بدرجة أو بأخرى لغرض ما ليس مبدئيّاً بالضرورة قدرَ ما هو بداعي الضجر من ثقل التقاليد الطاغي الذي يفضي إلى العديد من أشكال الانفجار المتباينة نوعاً وحجماً وتأثيراً.
من المهم الانتباه إلى التداخل الشديد في الاستخدام بين مصطلحات: “التقليد” و”العادة” و”العرف”، وهو تداخل لا يشمل السياقات العامة فقط وإنما يمتد لبعض الدراسات المتخصصة. إيريك هوبزباوم يشير إلى ذلك التداخل/الخلط بين المصطلحات الثلاثة وهو يحاول الفصل بينها. ومن الجيّد أن هوبزباوم ينتبه وهو يتناول الفرق بين كل مصطلح وآخر من الثلاثة إلى “السياق” الذي يلقي كل مصطلح بدلالاته عبره، وهكذا فإنه يصبح من الضروري ربط دلالة المصطلح بسياقه وما يريده الباحث منه قبل الانهماك في البحث عن أسباب ومظاهر التغيرات التي تطال “التقليد” أو “العادة” أو “العرف”.
في الفصلين الخامس والسادس من الكتاب بعنوان “تمثيل السلطة في الهند الفيكتورية” بقلم برنارد س. كوهين و”اختراع التقاليد في القارة الإفريقية المستعمرة” بقلم تيرينس رينجر، تباعاً، لا يعرض الكتاب فقط لتأثير الاستعمار البريطاني على التقاليد في أجزاء من شبه القارة الهندية وإفريقيا وإنما يتناول بقدر ما أيضاً تأثير تلك المجتمعات على تقاليد “الغزاة” البريطانيين في مستعمراتهم التي شكّلوها هناك، والأخير ليس تأثّراً مباشراً من قبل المستعمرين البريطانيين بتقاليد المجتمعات التي استعمروها وإنما على الأرجح أنماط حياة جديدة للإنجليز فرضتها طبيعة كل من تلك المستعمرات على اختلافها حضارياً وجغرافياً.
على كل حال، يبدو واضحاً تأثير البريطانيين على الهند ليس فقط في أواسط القرن التاسع عشر مع بداية الاستعمار البريطاني للهند وإنما إلى اليوم. وإذا كان الأمر نفسه ينطبق على التأثير البريطاني على مجتمعات القارة الإفريقية المستعمرة، فإن التباينات الواضحة والشاسعة بين مجتمع المستعمرات الهندي ومستعمرات إفريقيا تلقي بظلالها على طبيعة التأثير البريطاني في الحالتين. وإذا كان لا مناص من تحديد معلم واحد مشترك وظاهر لذلك التأثير فهو اللغة الإنجليزية لا ريب، ولعل المفارقة أن تأثير اللغة بدا أكثر تغلغلاً وتجلّياً في الهند الأكثر عراقة، وهي مفارقة ليس من الصعب تفسيرها بتذكّر أن الإنجليزية قدّمت نفسها ليس فقط بوصفها مرادفاً للغة العلم الحديث وإنما كذلك باعتبارها عامل توحيد للمجتمعات الهندية مترامية الأطراف والأعراق واللغات.
بالارتداد إلى مصر مع هذا السياق نجدها الحالة ذات الخصوصية الفريدة كالعادة، فهي وإن تكن إفريقية جغرافياً فإنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن التاريخ الحضاري العريق أولى بأن يجعلها في هذا السياق أدنى إلى المقارنة بالهند منها إلى المستعمرات الإفريقية. لكن مصر كانت مختلفة تماماً في هذا السياق عن الهند كذلك، بل حتى عن جاراتها المشتركة معها في الأصول الثقافية والدينية من دول الشمال الإفريقي العريقة بدورها والتي خضعت لتجربة استعمارية مختلفة، لا سيما في أبعادها الثقافية والمتمثلة في إصرار المستعمر الفرنسي على ترك بصمته الثقافية، واللغوية تحديداً، بصورة دامغة.
لم تستنكف الهند إذن عن استيعاب التأثّر اللغوي شبه الكامل بالمستعمر البريطاني بوصف اللغة أداة اقتحام للعصر الحديث وباعتبارها عامل توحيد تحتاجه على الأقل في مستويات التعامل الرسمية، ولم يمنعها ذلك من الاحتفاظ بكافة المعالم لحضارة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ والمجتمع بحيث لا يمكن اجتثاثها بين عشية قدوم استعمار وضحى جلائه، حتى إذا كان ما بين تلك العشية وذاك الضحى حوالي مائة عام. ولم تستنكف دول الشمال الإفريقي العربي العريقة أن تنهل من معين المستعمر الفرنسي الثقافي وتنغمس في لغته إلى أخمص القدم وتتداولها في كافة أنماط الحياة ببراعة مشهود لها، وإذا كان ذلك قد أثّر على تداول بعض أنماط الحياة باللغة العربية لفترة من الزمن فإنه لم يطمسها على أي صعيد بحال، بل أسّس لنمط فريد للعربية المغاربية.
على مستوى التأثّر اللغوي تقف مصر كما أشرنا مختلفة بوضوح، فالمستعمر الإنجليزي لم يفلح بأية صورة معتبرة في أن يضخّ لغته في شرايين المجتمع المصري، واكتفى المصريون باعتبار الإنجليزية لغة ثانية إذا كان لا مناص من لغة غربيّة لاقتحام العصر. وفي هذا السياق، وحتى في الكليات “العلمية” بالجامعات المصرية حيث الإنجليزية هي اللغة الرسمية للمنهج، تتراجع الإنجليزية إلى الإطار في أشد أشكاله رسمية (شكلية؟) في التعامل، لتبقى العربية – وأحياناً العربية الدارجة – هي اللغة التي تفرض نفسها على “روح” المنهج. وإذا كان البعض يرى ذلك تقصيراً في التعامل المفترض بلغة العصر التي تمّ اعتمادها سلفاً للتدريس في تخصصات علمية بعينها، فإنه في النهاية لدى مطالعته في الإطار الأشمل لتلقّي المصريين لما هو طارئ على عاداتهم وثقافتهم لا يشكّل إلا تجسيداً لـ”العناد” المصري في الاستمساك بالأصول الثقافية، وهو “عناد” كثيراً ما يبدو كأنما ينساب بصورة عفوية، وأرجو أن تجوز المفارقة التي يتضمنها التعبير.
ما حدث مع المستعمر الإنجليزي هو تقريباً ما لقيه سابقه الفرنسي من حظ “لسانه” العاثر في نفاذ التأثير على المصريين، ذلك رغم الفارق الكبير بين المدة التي استغرقتها الحملة الفرنسية على مصر والمدة التي امتدّ عبرها بقاء المستعمر البريطاني، والمفارقة أن كليهما وفد على مصر في ظلال “مستعمر” ثالث لم يفلح هو الآخر في تغيير اللسان المصري، وإن نفذ تأثيره الأكثر عمقاً في الحياة المصرية من أبواب أخرى في إطار التلاقح الحضاري الذي أثرى الثقافة المصرية منساباً في أنماط متعددة اكتسبت تجانسها عبر العصور.
والحال كتلك مع اللغة، وبتجاوز خصوصية التغيير الكبير الذي شهدته مصر مع الفتح العرب/الإسلامي والفترة التي يمكن أن تكون قد امتدت قبل أن تستقر الحياة المصرية بكافة أنماطها على اللسان الجديد، لا تبدو التقاليد المصرية أقلّ “عناداً” – من “اللسان المصري” – قبل أن تستجيب بالقبول لأي تغيير، فـ”اختراع” التقاليد المصرية بدأ قبل بضعة ألاف عام، وظلت عملية الاختراع متواصلة دون أن تنقطع صلة جديد التقاليد بقديمها انقطاعاً حاداً ومفاجئاً حتى مع انقلابات الفتوحات الكبرى، فقد احتفظ المصريون بالقدرة على ممارسة تقاليدهم في الخفاء، وهو ليس خفاءً مادياً فحسب وإنما خفاء معنوي أيضاً، فالطقس الذي ينتمي إلى حقبة ثقافية أو دينية انتهت سيادتُها يظل متداولاً تحت مسمّى آخر في هالات تقرّبه ما أمكن إلى الثقافة الجديدة المتسيّدة لإبعاد شبهات التحريم أو الاستنكار.
هكذا لا يبدو المصريون متهاونين في السماح للسان أو تقاليد بأن تقتحمهم فتقلب كيانهم المادي أو الروحي إلا إذا استأذنتهم وأخذت في التشكّل على مهل عبر العصور، حتى إنه لم يعد ممكناً أن ينفرد ببراءة اختراع التقاليد المصرية مجملةً في أية مرحلة من مراحل التاريخ المصري أيٌّ من الغزاة أو المؤثِّرين.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي ([email protected])