هالة أبو شامة
our planet
ساعات كثيرة يقضيها البعض أمام الشاشات منجذبا لوثائقيات العلوم والطبيعة التي تستعرض سلوكيات الكائنات الأخرى سواء كانت برية أو بحرية أو حتى تطير في الجو لآميال بعيدة، منها المفترس ومنها الخجول الذي يصعب التنبؤ بأماكن تواجده أو بموعد ظهوره.
إذا كنت أحد هؤلاء الشغوفين بالاطلاع على أسرار البرية وعالم البحار والمحيطات الذي يحيطه الغموض والذي لم يستكشف منه حتى الآن سوى حوالي 5% فقط وفقا تصريحات العلماء.. فهل سألت نفسك يوما كيف تم رصد وتصوير كل تلك اللقطات الصعبة الخاطفة للأنفاس؟
إجابة هذا السؤال جاءت على مدار ساعة و3 دقائق من خلال وثائقي “خلف كواليس our planet” أحد العروض الخاصة بشبكة “نتفليكس” والذي تم إنتاجه عام 2019.
ذلك الفيلم الذي أعده صانع الوثائقيات الشهير ديفيد اتينبارا، استعرض 7 قصص مختلفة كشفت عن التحديات والصعوبات والظروف القاسية التي واجهها 600 طاقم عمل تم تشكيلهم خلال 200 رحلة تصوير تم القيام بها على مدار 4 سنوات في 60 دولة حول العالم.
رغم أن عدد الدول المذكورة فيما سبق هي 60 دولة إلا أن صانعوا الفيلم اكتفوا بذكر 7 منها أماكن فقط وهي كالآتي:
ففي تلك الجزيزة التي تقع في جنوب المحيط الهادئ بحث فريق العمل عن أسماك القرش، وقاموا بالعديد من رحلات الغوص مستخدمين العديد من المعدات التي تم تصميمها خصيصا لتبدد ظُلمة الأعماق وتلتقط صورا حية وبجودة عالية لتلك الأسماك الجائعة الشرهة أثناء انقضاضها على فريستها.
المهمة الصعبة هنا حسبما أوضح طاقم العمل لم تكمن في العثور على أسماك القرش في حد ذاتها، وإنما في تقنية التصوير التي تم الاستعانة فيها بكاميرا عالية الدقة تم تركيبها على جهاز خاص مزود بإضاءة مناسبة، هذا بجانب توضيحهم لوسائل الحماية التي لجأ لها هؤلاء الغواصين ليستطيعوا السباحة بين هذه القروش دون أن يمسهم مكروه أو أذى.
في ذلك الجزء من الفيلم تحديدا استطاع طاقم العمل من خلال مغامرتهم الطويلة مع “النمر السيبيري” أن يكشفوا عن مدى الصبر والمثابرة التي تحلوا بها للخروج بنتائجهم المثمرة.
فقد استمر الأمر عامين كاملين من العمل المضني والنتائج المخيبة للآمال لالتقاط صورة لذلك النمر الذي وصفوه بأنه “خجول للغاية”، وليتغلبوا على ذلك الخجل استعانوا بسلسلة من الكاميرات الخفية التي تم تثبيتها بحرفية شديدة على طريق امتد لعشرات الأمتار، بالإضافة إلى أقفاص التخفي التي تم توزيعها بعناية والتي استقر فيها مصورين كانت مهمتهم الوحيدة هي الانتظار لأيام عديدة في ظروف مناخية قاسية لانتهاز الفرصة حينما تحين اللحظة المناسبة.
هنا الوضع كان مختلفا.. إذا أن العلماء أرادوا أن يوثقوا سلوكيات الدب القطبي وهو يصطاد الأسماك التي تعلق في الأماكن الضحلة من البحيرات، لكن رغم تواجد الدببة وتوافر معدات التصوير اللازمة والأبحاث الدقيقة، إلا أن الطبيعة هزمتهم؛ وذلك بسبب ارتفاع منسوب المياة نتيجة الأمطار، والتي عملت بدورها على تسهيل عبور الأسماك إلى وجهتها المنشودة دون أن تكون وجبة شهية للدببة.
تضمن هذا الجزء لقطات كشفت عن مدى المعاناة التي يتعرض لها مصوروا الأدغال والتي كان المرض جزء منها؛ حيث أصيب أحد المصورين بحساسية شديدة في ساقيه بسبب أحد النباتات السامة مما أرغمه على التمدد في الشمس للتعافي ومتابعة السير بين الأشجار الكثيفة والجذور الملتوية على الأرض باحثا عن “قرود الأورانغوتان” التي اتخذت من الأغصان بيتا لها، ليوثق لحظة استعانتها بالأدوات للحصول على طعامها.
وبالفعل حينما عثروا على أحد القرود وهو يستخرج النمل بواسطة عصاة رفيعة من أحد الأغصان ليتناوله، كانت لحظة فارقة عوضتهم عن ساعات عديدة أمضوها في المشي بين الأدغال وداخل المستنقعات الموحلة.
وصف صناع الفيلم هذا الجزء بأنه كان الأكثر إرهاقا للأعصاب؛ وهذا ما يمكن للمشاهد التأكد منه بكل سهولة بعد رؤيته لتلك اللقطات التي وثقوا من خلالها لحظات الترقب التي سبقت انفصال كتلة جليدية بحجم كيلومتر عن جبل في وسط المياه.
رغم يأس الفريق من حدوث الانهيار الجليدي خلال مدة رحلتهم المحددة، إلا أن أحدهم كان متمسكا بالأمل للحظة الأخيرة مؤكدا أن الأمر المنتظر دائما ما يحدث في اليوم الأخير.
وهذا ما حدث معهم فالانهيارات المتتالية والتي كانت بحجم ناطحات سحاب نبهتهم لحدوث الانهيار الكبير الذي تسبب في خروج كتل جليدية كبيرة من عمق المياه للسطح، فالمشهد الذي تم تصوير بمروحية على مسافة قريبة كان أشبه بالفوران.
في هذه المنطقة كان الأمر ممتعا وحميميا؛ إذ أنه على متن قارب ترقب فريق العمل ظهور الحوت الأزرق الكبير لتصويره مع صغيره، لكن رغم تواجد الحوت باستمرار وظهوره على سطح الماء كل فترة، إلا أن اللقطة المناسبة احتاجت لوقت أطول.
تلك اللحظة حانت حينما خرج صغير الحوت وسبح وبجوار والدته مقلدا إياها وهي تبتلع كمية كبيرة من المياة المحملة بالجمبري لتتغذى عليها، وظل يلتف حولها كأنه يلعب معاها في لقطات أوضحت مدى الحميمية بين أثنى الحوت وصغيرها الذي يلازمها.
كان هذا الجزء من العمل الأكثر إيلاما، إذ انتظر فريق العمل قدوم قطيع حيوانات “الفظ” وسط ظروف مناخية قاسية، وبالفعل فوجئوا في ساعات متأخرة من الليل بأن هذه الحيوانات قد جاءت وأحادت بالكوج الخشبي الذي احتموا به على الساحل.
وبعد ساعات قليلة استعاد القطيع فيها نشاطه عاد للسباحة حتى وصل لجزيرة صخرية، وهناك تسلق البعض آملا في إيجاد موقعا مناسبا لقيلولته إلا أن وزنهم الثقيل وحجم الضخم الذي لم يُصمم لتسلق المرتفعات لم يسمح لهم إلا بالسقوط والموت واحد تلو الآخر، ليصبحوا بذلك وجبة سهلة المنال للدببة القطبية.
صعوبة المشهد، كان كافيا لتحريك مشاعر مصوريه الذي بكوا حزنا بفضل ما عايشوه.
ومن خلال هذه المشاهد يمكن الخروج بعدة ملاحظات عن العمل هي كالآتي:
1- اختيار صانع العمل للأماكن التي تم مزج لقطاتها والتنقل بينها كان رائعا للغاية، خاصة أنه تم تقسيم الفيلم لجزئين، الأول تنوعت لقطاتها ما بين أربع مهام هي “القرش والنمر السبيري والدب القطبي وقرد الأورانغواتان”، أما الثاني فكان “الجبل الجليدي والحوت وحيوانات الفظ”.
هذا ما صنع توازنا بين بين المشاهد، حيث كان التركيز في البداية على ما يحدث على اليابسة ومن ثم انتقل بنعومة شديدة للمحيط والجليد.
2- تصوير المشاهد كان معقدا، إذ أنه ليس من السهل العمل على تصوير موضوعات محددة وفي نفس الوقت استخدام كاميرات أخرى لتصوير كواليس العمل على الموضوع الأول؛ فالأمر أشبه بتصوير فيلم داخل فيلم.
3- استعرض الفيلم الوثائقي جميع المشاعر الإنسانية بداية من الشجاعة التي ظهرت جلية في عمل الغواصين الذين صوروا القرش، وحتى مشاعر حزن طاقم عمل مهمة حيوانات “الفظ”، مرورا بالانبهار والسعادة والحميمية والألم مثل ذلك الذي تعرض له مصور الأدغار حينما تحسس من نبات سام.
4- أكد الفيلم على أن العمل المضني في هذا المجال يمكن أن يبوء بالفشل، فالطبيعة أقوى بكثير من الإنسان.
5- اللقطات الوثائقية التي نشاهدها على الشاشة في ثواني معدودة، هي في الأصل يمكن أن تكون سنوات طويلة من العمل الشاق الخيبات المتكررة.
6- المناخ في تغير مستمر، وتأثيره لن يطال الطقس فقط وإنما تأثيره أيضًا يقع على الإنسان والحيوان.
7- حينما نشاهد فيلما وثائقيا في المرة المقبلة، فيجب أن نمتن لصناعه.