إيمان مندور
ذات مرة سمع الفنان المسرحي الكبير نجيب الريحاني، إحدى الممثلات الصغيرات وقتها على المسرح _ وكانت الفنانة نجوى سالم _ تضيف لدورها كلمة ليست في النص الأصلي، فأعجب بذلك. وفي اليوم التالي وصل الممثلون إلى المسرح ليجدوا في نشرة التعليمات اليومية المعلّقة على اللوحة أمرين؛ الأول يقول إنه يُخصم من مرتب نجوى سالم مبلغ جنيه كامل لخروجها عن النص ليلة أمس، والثاني إضافة الكلمة التي أضافتها نجوى سالم إلى النص.
بالطبع هذا إجراء إداري ممتاز، لأنه رغم إعجابه بالكلمة إلا أن ذلك لم يمنعه من توقيع العقوبة لأن التصرف جاء دون استئذان، ورغم إقرار العقوبة إلا أن ذلك لم يمنعه أيضا من الاستفادة والإشادة بإضافة الممثلة الصغيرة، فكثيرا ما يتعالى الكبار على أراء الصغار، ويترفَّعون عن التصديق والإشادة بها في العلن، خاصة في الحياة العملية.
المهم أن الريحاني حسم موقفه من قضية الخروج عن النص بشكل عملي، لكن تظل القضية الشائكة قائمة لم تنته بعد، هل البحث عن متعة الارتجال أمر محمود؟ أم خيانة للمؤلف والرقيب وكسر لقواعد الالتزام بالنص؟! هل يمكن وضع ضوابط لها؟ أم فكرة الخروج عن النص نفسها في ظل العصر الحالي يمكن توسيع رقعة تعريفها، فلا تقتصر على مجرد جمل أقحمها الممثل في النص بشكل مفاجئ؟ لكل زمن قواعده التي تكسر، فما الخروج الآن مقارنة بالماضي؟!
في البداية، لا شك أن الأمر مرهون في أي وقت وزمن بطبيعة ما قيل/حدث خارج النص، فإن كان يمس شأنا دينيا أو سياسيا أو انتقاد لشخصيات مشهورة فبالطبع يواجَه بعنف من قِبل الرقابة، مثلما حدث في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وتحديدا في أبريل 1987، عندما صدر إنذار بإيقاف مسرحية “ع الرصيف” بسبب خروج الممثلين عن النص، لدرجة أن إدارة التفتيش الرقابي حررت محضرًا ضدهم.
صنّاع العمل المتهمون في المحضر هم جلال الشرقاوي وسهير البابلي وحسن حسني وأحمد بدير وفؤاد خليل، وذلك بتهمة الخروج عن الآداب العامة والتهكم على بعض الشخصيات السياسية الهامة، لذلك تم إنذارهم كتابيا بالالتزام بالنص المرخص، على أن يتم إيقاف العرض حال تكرار الواقعة.
المفارقة أن جلال الشرقاوي نفسه عاد بعد أكثر من 20 عاما، ليهاجم فكرة الخروج عن النص، مؤكدا لصحيفة “البيان الإماراتية” رفضه القاطع لها، حيث يرى أن ما كتبه المؤلف مقدس لا يجب أن يُمسّ، فضلا عن وجوب معاقبة الممثل الذي يضرب بالنص عرض الحائط ويقوم بدور المؤلف.
ورغم مهاجمته وعقابه لكل من يتبنى فكرة الخروج عن النص، إلا أن “الشرقاوي” استثنى من هذا العقاب النجوم الكبار مثل عادل إمام وسمير غانم وسعيد صالح، وبرر خروجهم عن النص بما لديهم من إمكانات وملكات خاصة يستطيعون بها معرفة رد فعل الجمهور وقياس نبضه.. وكأن الكبار يستثنون في كل المجالات فلا تنطبق عليهم قواعد العامة.
هذا الاستثناء كان يتم في الواقع فعلا تجاه هؤلاء النجوم من الجميع، وليس من جلال الشرقاوي فقط، فنجد نصوص بعض مسرحيات عادل إمام تضمنت صفحات خالية مكتوب فيها “وقف حر لعادل إمام”، ليقول ما شاء وكيفما شاء، فهو لا يستغني عن مشاهد الارتجال على المسرح. وهو ما يرجعه بعض النقّاد لكونه سببا في استمرار مسرح عادل إمام لسنوات أطول بكثير من غيره من النجوم، فهو يجدد إيفيهاته بشكل يومي، وبالتالي لا يمل الجمهور من الذهاب لمشاهدته باستمرار.
لكن بالعودة لوقتنا الحالي، الذي كثر فيه خروج النجوم عن النص في الحياة الواقعية قبل خشبات المسرح، نجد مثلا الفنان محمد رمضان في أحد أشهر مشاهد مسرحيته “أهلا رمضان”، والذي يتجاوز عدد مشاهداته 6 ملايين على يوتيوب، يخرج عن النص – بحسب العنوان الذي وضعته الشركة المنتجة عبر قناتها – مقلدا شخصيته في مسلسل “الأسطورة”، ومن بين جميع عبارات رفاعي الدسوقي، اختار رمضان أن يقول للممثل الموجود أمامه على المسرح، وبطريقة أداء البلطجي “يخربيت أمك”، فتنطلق ضحكات شيماء سيف وروجينا على المسرح، رغم عدم وجود أي إضافة كوميدية من النجم.
في الواقع الارتجال متعة لا تتم بشكل كامل إلا حين يهرب الممثل (أيا كان حجم نجوميته) من سجن المؤلف فيحصد إعجاب الجمهور بسبب موهبته. مساحة حرة يقتنصها الإنسان في لحظة لعلّه يصل من خلالها لأبعد مما هو متوقع ومخطط له.. لكن هل يكفي هذا الشعور لتبرير الخروج عن النص؟! لا توجد إجابة واضحة حتى الآن، لأنه وإن كانت الظاهرة تبدأ في المسرح، وإن كان النقاش حولها لا ينتهي، وإن كان الأمر شأن فنيّ بحت، إلا إنه من السذاجة إسقاط المعنى العام لها على المسرح فقط، دون ملاحظة مدى اللهث وراء الخروج عن كل نص أو قاعدة أو بديهيات متفق عليها الآن، سواء في المشهد الفني أو السياسي أو الرياضي أو الإعلامي.
الكل يسعى للخروج عن النص، لكن بأسلوب محمد رمضان وليس بضوابط الريحاني، فالهدف لم يعد الوصول للجمهور وإسعاده، لكن أخذ “اللقطة”… وفقط.