إنجي الطوخي
يقول نجيب محفوظ في أولاد حارتنا “لكن آفة حارتنا النسيان”، تبدو الجملة معبرة وبها بعضا من الحكمة، ولكن ماذا لو كان “محفوظ” حي بيننا إلى الآن، أتخيله وقد غير جملته الشهيرة إلى ما أصبح مجتمعنا عليه حقا “آفة حارتنا التصنيف”!
بدت كلمات الفنانة منى زكى عن مدينة بنها، عفوية صادقة منطلقة بدون أي حسابات سيدة تتحدث عن زوجها، وإعجابها بثقافته وتفتحه، على الرغم أنه ولد في إحدى مدن الأقاليم وهي مدينة بنها، ولكن في المقابل عبرت عن رؤية ما زالت تسود المجتمع تجاه الأقاليم وأبناءها، ذلك التصنيف الذي يرى أن الثقافة والتفتح حكرا بحسب الموقع الجغرافي ومكان النشأة دون أي دليل يذكر!
كانت الكلمات مدهشة بالنسبة لي، فأنا عشت وولدت في مدينة بنها عاصمة محافظة القليوبية، ولم أجد ما ذكرته في المدينة الصغيرة التي تبعد عن القاهرة 45 كيلو متر، فعلى سبيل المثال كل وسائل التعليم متاحة بل ويتم التشجيع عليها و”البنت مثل الولد” بلا أي نظرة رجعية، بل ويرسل الجميع الأبناء للدراسة في الجامعات الأخرى خارج مدينة بنها إن لزم الأمر، للتأكد من الحصول على التعليم الجيد.
أما بالنسبة للثقافة فهناك المكتبات العامة، قصر ثقافة بنها الذي يستضيف كل الفرق الموسيقية الحديثة والأفلام السينمائية، كذلك وسائل للترفيه مناسبة، وتوجد جمعيات ومجتمع مدني يعمل على نشر التوعية المجتمعية، وذلك ليس حديثا بل من أكثر من 20 عاما، فما الذي سيجعل بنها وأبنائها غير متفتحين؟! هل الملابس على سبيل المثال، ففي بنها الكل لا يوجد إجبار على ارتداء زى معين، فالكل يرتدي ما يحبه، هل شكل الشوارع والبيوت مثلا، فالطرقات ممهدة، والحركة سهلة ويسيرة، فما السبب؟
“آفة حارتنا التصنيف”، تفقز الجملة أمامي وتتراقص وأحيانا تظهر لي لسانها وهي تسخر من ذكائي، الذي يعتقد أن كل شيء يسير وفق المنطق، لكن الأمر ليس كذلك بالمرة، بل هو فقط بالتصنيف الذي يخلع “صورة نمطية” على كل شيء، فالمرأة مكانها المنزل، ورجل الأعمال دوما شرير، والسكرتيرة لعوب، والموظف بطيء كسول، والمدرس طماع، وبالطبع ودون أدنى شك الأقاليم وأبنائها غير متفتحين لأنهم فقط أقاليم.. وكيف ننسى ذلك؟
الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، هو حق للجميع، من حق البعض أن يرى أن الأقاليم مكانا ينقصه الثقافة والتفتح إذا تمت مقارنته بالعاصمة، ولكن أن يكون هذا الرأى بناء على تجربة شخصية، أو حدث صغير مررنا به، ويتحول إلى حكم عام، نقتل به المواهب ونرسم نظرة لا تخلو من عنصرية، تفرق في التعامل على أسس لا دخل للبشر فيها مثل اللون أو الجنس أو مكان المولد، فهذا أمر مخيف حقا، ويصبح مرعبا لأنه لم يصدر عن مواطن عادي، بل يصدر من شخصية عامة، مؤثرة في الرأي العام ولها متابعين كثر ليس فقط على مستوى مصر بل على مستوى العالم العربي، سيبتنوا رأيها بكل أريحية فهي في النهاية “منى زكى”!
وهذا التأثير كان واضحا، فلم تمر ساعات قليلة حتى انطلقت السوشيال ميديا فى رسم حوارات جدلية عقيمة حول الأقاليم وسكانها وصفاتهم وسلوكياتهم، وكأنهم فضائيين، أو كأنهم قادمين من كوكب آخر يبعد مئات السنوات الضوئية عن كوكب القاهرة المليء بكافة صور الحداثة والتحضر، وصارت السوشيال ميديا مجموعة من الحواري والشوارع التي جلس فيها كل مجموعة على ناصية “لتفصيص” تلك السلوكيات، وبعضهم لجأ إلى التجويد وبدأ في التعبير عن غضبه من سكان الأقاليم، بل واستخدام الانتقادات الجارحة وأحيانا أخرى ألفاظ يندى لها الجبين.
“التصنيف” هي الآفة غير المرئية التي تثير الكره والأحقاد بلا داعي سوى العنجهية والاستعلاء، التي علينا التخلص منها إن أردنا التحول لأمة متحضرة حقا وليس شكلا، فالبعض طالب الفنانة “منى زكي” بالاعتذار لسكان بنها، وهو أمر مضحك لا جدوى منه، فالاعتذار هو مجرد مسكن موضعي و ليس حلا، إذا كان هذا رأي الفنانة الكبيرة حقا، بل الحل الحقيقي هو نشر التعليم والثقافة بأن التصنيف أمر مخزي، وأن الجميع سواسية ليس فقط أمام الله كما ذكر في شرائعه بل في سواسية أيضا في الوطن.