عند الحديث عن قيام وانهيار الدول والحضارات، وقراءة ما بين القيام والانهيار من ذروة كل حضارة، سيكون من الصعب تجاوز ابن خلدون وآرائه البارزة على هذا الصعيد. وإذا كانت آراء المفكر الرائد في الدراسات الاجتماعية والإنسانية قد استحوذت على إعجاب وافتتان الكثيرين من العامة والخاصة، فإن من الطبيعي أن تُستقبل تلك الآراء – أو بعضها على الأقل – بالمعارضة على الجانب المقابل. والمعارضة إذا كانت طبيعية أمام كل وجهة نظر تطرح للنقاش، فإنها أكثر إغراءً واستحقاقاً إزاء الأعمال الرائدة التي تكتسب خصوصيتها ابتداءً من جرأة الطرح – وربما تحديداً من اختلافه بالضرورة عن السائد والمتوقّع على حدّ سواء – وليس من قابليته لأن يوافق عليه ويرحّب به من قبل القطاع الأعظم من عامة المتلقين وخاصّتهم.
أعيدَ اكتشاف مقدمة ابن خلدون بعد كتابتها بقرون طويلة، أو ربما اكتُشفت قيمتها بصورة أوضح حديثاً في الشرق والغرب بعد تشكّل أسس العلوم الحديثة، لا سيما في الدراسات الاجتماعية والإنسانية التي تندرج تحتها المقدمة – بل وتؤسس لها كما يرى كثيرون – وما يليها من أجزاء الموسوعة الكبيرة تحت عنوان تقليدي طويل: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”. المقدمة لم تتجاوز فقط شهرة الموسوعة التي قدّمت لها – والتي تضم أجزاءً سبعة أخرى في التاريخ – وإنما فاقتها من حيث القيمة الإبداعية بما لا يدع مجالاً يذكر للمقارنة كما يرى البعض، وعليه فإن الإقبال الذي لاقته المقدّمة يبدو حظاً مستحقاً ليس على حساب غيرها من المراجع السابقة واللاحقة بصفة عامة بل حتى على حساب مؤلفات ابن خلدون الأخرى وتحديداً بقية أجزاء الموسوعة التي كانت “المقدمة” بمثابة أولها.
لن نقف عند آراء ابن خلدون في هذا المقام بأكثر من الإشارة العابرة إلى ريادتها من ناحية، وإلى كونها غير نهائية من ناحية أخرى. والإشارة الثانية وإن كانت بديهية – فيما يتعلق بكافة المؤلفات أياً كان أصحابها بصفة عامة – فإنها ضرورية من باب التذكير بأن دراسة أسباب قيام الدول وانهيارها وقراءة الشعوب والمجتمعات وبواعث انفعالاتها تحديداً – وليس الكتابة عن التاريخ مجملاً – من أهم ما يجب أن يستوعب من الآراء ما هو مختلف إلى حد التضادّ، وذلك على عكس ما يمنّي به المتلقِّي – بل الباحث في كثير من الأحيان – نفسَه عادةً طمعاً في الوصول إلى الحقيقة الدامغة والمحصلة النهائية التي تسد كل الثغرات في الدراسات التاريخية والإنسانية ذات الصلة.
بالقفز خمسمائة عاماً إلى الأمام، ولكن على الصعيد ذاته مع غوستاف لوبون في كتابه “القوانين النفسية لتطوّر الشعوب”، الطبعة العربية عن دار الرافدين ببيروت وبغداد عام 2019 ، نقرأ: “إذا بلغت الأمة ذروة الحضارة والقوة فأمست في مأمن من غارة الجار ومالت إلى التمتع بنعمة السلام والمعيشة الراضية، التي هي بنت اليسر، ماتت فضائلها الحربية وتجدد لها من الحاجات بقدر ما زاد في حضارتها، وتمكن حب الذات من النفوس ولم يعد من همها إلا سرعة التمتع بالخيرات التي نالتها على عجل، فتنصرف الهمم عن الاشتغال بالمصالح العامة، وتضيع في الناس الفضائل التي كانت سبباً في عظمة الأمة. وحينئذ يغير عليها جارها من الأمم المتبربرة أو التي هي في حكمها، لأنه إن كان أقل منها حضارة فهو أشدّ خيالاً، ثم يهدم حضارتها ويقيم (على) أطلالها حضارة أخرى”.
يواصل لوبون: “ذلك ما جرى للرومانيين والفرس، فإنهم على ما كانوا عليه من أحكام النظام شتت البربر شمل الدولة الأولى كما شتت العرب شمل الثانية. ومن المحقق أن الذي أعوز المغلوب لم يكن هو العقل والذكاء، بل إنه لا مناسبة في ذلك بين الغالب والمغلوب. لأن أرقى العقول وأكبر الفطن ظهرت في روما وهي حبلى بموجبات سقوطها، أعني في عصر الامبراطورية الأول. ففي ذلك الزمان نبغ أهل الفنون والأدباء والعلماء، وإلى ذلك العصر ترجع جميع الأعمال التي بني عليها مجد تلك الأمة الباذخ. ولكنها كانت أضاعت العامل الأساسي الذي لا يقوم الذكاء مقامه مهما بلغ، ألا وهو الخلق”.
تلك قفزة كما هو واضح كبيرة بحساب الزمان، وبرغم مجيئه بعد تأسيس علوم الاجتماع والإنسانيات الحديثة على أيدي علماء بارزين – بعضهم من مواطنيه من طراز أوغست كونت – فإنه ليس من المستبعد أن تكون في آراء ورؤى غوستاف لوبون مسحة من التأثّر بان خلدون، وهو ليس تأثراً حرفياً بالضرورة وإنما على سبيل الاستلهام لطرائق الاستقراء والاستنباط، وقد يفضي ذلك الاستلهام أحياناً إلى خروج المفكّر المتأثِّر برؤى مناقضة لما جاء به من أثّر فيه من المفكرين.
في كل الأحوال، القضية في سياقنا هذا ليست مسألة تأثير وتأثّر بقدر ما هي ما ظللنا نردّده حول الآراء والرؤى التي تكتسب قيمتها من القضايا الجديدة التي تفجّرها فتبعث المزيد من الأسئلة الخلّاقة دون أن تزعم الوقوع على الحقيقة الأزلية الضائعة.
يقول لوبون: “نعم ليس في وسعنا أن نعرف من حقيقة الوجود إلا ما ظهر، أعني حالات نفسية قيمتها نسبية بالضرورة. لكن إذا نظرنا إلى الجهة الاجتماعية جاز لنا أن نقول بأن لكل عصر ولكل أمة أحوالاً وآداباً ونظامات ذات معنى كلي، ولا بقاء لتلك الأمة إلا بذلك كله، فإذا قام الجدل عليه وتطرق الشك فيه إلى العقول فقد اقتربت ساعة الأمة لا محالة”. هذا كلام عام رائع لا مجال على الأرجح لأن يخالفه أحد إلّا عند الانتقال من التعميم إلى التحديد ببيان تلك “الأحوال والآداب والنظامات ذات المعنى الكلي” ثم تفصيل تأثيرها على كل أمة وتحديد المقصود بالحديث عن “اقتراب ساعة الأمة” أو حتى انهيارها تماماً.
لوبون لا يتباطأ، فهو يبادر إلى التحديد: “وإذا انتقلنا من المقدمات إلى النتائج وجب علينا التسليم بأن علامات الانحطاط أصبحت بادية في معظم الأمم الأوروبية وعلى الأخص في الأمم المعبر عنها باللاتينية، سواء جاءها هذا الوصف من حيث الأصل أو من حيث التقاليد والتربية. فتراها تفقد كل يوم شيئاً من قوة الاستنباط والهمة والإدارة والكفاءة للعمل”. يذهب بعدها الرجل إلى مزيد من التحديد حول المذاهب الفكرية والعقائدية المؤثرة وحول الأمم الأوروبية التي يتناولها بالتحليل وهو يشير إلى فروق ومميزات محددة – إن سلباً وإن إيجاباً – بين الإنجليز والأمة الروسية وألمانيا “الجديدة” على سبيل المثال. الأهم في كل هذا أن “نبوءات” لوبون لا تتحقق كما حذّر منها، وأن الفضل الأكبر للمفكر الفرنسي هو تمكّنه من طرح الكثير من الرؤى المثيرة للجدل والباعثة للعديد من الأسئلة الخلّاقة.
بأخذ كل ما سبق في الاعتبار، ليس فقط ابتداءً بابن خلدون ولا انتهاءً بغوستاف لوبون، والأهم باستصحاب “الحقيقة” المتمثلة في أنه لا “حقيقة” أخيرة يُفترض أن ينتهي إليها البحث في أسباب قيام وانهيار الحضارات، نقف كالعادة على خصوصية الحضارة المصرية في “نهضاتها” و”انهياراتها” المتكررة. فبالنظر إلى التاريخ المصري بصفة عامة من حيث الفترة الزمانية الممتدة عبر القرون ومن حيث التأثير عالمياً وإقليمياً على السواء، نجد أنه قلّما انزوت مصر إلى حيث باتت منكفئة تماماً على نفسها بعيداً عن أي تأثير عالمي أو إقليمي بدرجة أو بأخرى، ذلك أن الآخر كما عرضنا مراراً في هذا السياق – سواء عربياً أو عالمياً على امتداد الحضارية الإنسانية منذ القدم – هو الذي ظلّ يفد على مصر لتتمّ عملية مزدوجة (وليست متناقضة) من التأثير والتأثّر.
وهكذا، كان قدَر مصر ألّا تستريح من الأضواء مسلّطة عليها بهذه الطريقة أو تلك وبتلك الدرجة أو بغيرها. بدا سحر مصر لدى الإنسانية متجسّداً في حضارتها الفرعونية وآثارها، ليست الخالدة فحسب كما في التعبير الشائع المستهلك وإنما – بتعبير أكثر دقة – المتجددة من خلال إعادة اكتشاف أسرارها في هذه الحقبة وغيرها، وذلك بما يسوّغ القول بأن خصوصية مختلف أشكال الحضارة المصرية تجلّت في استمرار أثرها وتأثيرها بعد أن تتلاشى ذروة سطوة الدولة المادية في أية حقبة من الحقب ربما بما لا يقلّ عن تأثيرها وتلك السطوة في ذروتها.
أما على مدى التاريخ العربي فقد ظل تأثير الحضارة المصرية أعمق، ذلك أن مصر بدت باستمرار باعتبارها مصدراً جاذباً للممالك والخلافات العربية والإسلامية بحيث تستقر فيها بما يصل إلى اتخاذها مركزاً إن لم يكن سياسياً للحكم فاستراتيجياً بما يساعد على تمكين إدارة الدولة الممتدة عربياً، وفكرياً بما يفيد من تراثها المعرفي المتراكم والقابل في أغلب الأوقات للإمداد بمعين ثقافي متجدد لم يكن من السهل أن يصيبه النضوب تماماً.
وعليه، فإن الأبعث فخراً للمصريين ليس الحديث عن ذروة الحضارة المصرية في هذه الحقبة أو تلك من عمر الزمان قدرَ ما يجب أن يكون شعوراً أعمق مبعثه قدرة مصر النادرة على العطاء حتى في حالات الجدب الحضاري التي لا يسلم منها محيط إنساني على أي نطاق في أي زمان ومكان.