أحمد أبو درويش دفاتر الورّاق دفاتر الورّاق
في روايته الأخيرة الحائزة على جائزة البوكر العربية، قدم لنا جلال برجس عملا متكاملا في بناءه وسرده السلس الناعم، وحبكاته المتنوعة المتداخلة، ولغته اللافتة.
الرواية تتحدث عن شاب يدعى إبراهيم الوراق، ويعمل في بيع الكتب وهي المهنة التي ورثها عن أبيه، ومن هنا جاءت تسميته، لكن علاقة إبراهيم بالكتب لم تكن مجرد علاقة تجارية، لكن كانت علاقة تماهي مع أبطال كتبه.
الرواية ممتلئة بالأحداث والتفاصيل التي تأخذك لعالم “الضياع” بعدما فقد إبراهيم أمه بوفاتها ثم هجرة أخيه وانتحار والده، والذي قاسى ظروفا صعبة في تجربة السجن السياسي، ثم فقد إبراهيم محل أبيه لصالح أحد الفاسدين الكبار.
تبدأ مرحلة الضياع بقرار من إبراهيم بإنهاء حياته، بشكل عاجز، لكن وللمفاجأة يكون هناك إبراهيم آخر تتكشف تفاصيله مع انتهاء الرواية، يقرر الانتقام بدلا من الاستسلام.
وكأن الرواية بخوضها في طريقين مغايرين، كأنما تتحدث عن شخصين شديدا الابتعاد عن بعضهما البعض في التفكير والتقرير، يربط بينهما الاسم والأحداث والمصير المشترك في نهاية الرواية، لكنهما في الحقيقة شخص واحد. الفاصل بين الحقيقة والوهم ليس كبيرا في عالم هذه الرواية، يخوض الكاتب في مسارات متعددة، بين إبراهيم الخانع المستذل وإبراهيم القوي المنتقم، وإبراهيم الذي يشبه روبن هود المنتقم من أجل المظلومين والسارق من أجل الجياع، والذي يحل مرة في صورة أحدب نوتردام ومرة في صورة سعيد مهران بطل اللص والكلاب، وأحمد عبد الجواد بطل الثلاثية لنجيب محفوظ، وغيرهم، فأيهم إبراهيم.
يظل التساؤل يطارد القارئ طيلة العمل، إلى أن تواجهه مفاجآت المصير المشترك في نهاية الرواية وكأن الجميع في مجتمعاتنا يعاني، وكأن الجميع يصرخ، وكأننا جيعا ننتظر رون هود/ المهدي المنتظر/ المسيح الذي يخلصنا من آلامنا.
عظيم هذا البناء في الحبكات المتنوعة الذي نسجه جلال برجس، فبجانب السرد المتواصل للرواة المتنوعين في أحاديثهم الداخلية، والتي تعري الأبطال من كل حصونهم التي ينبونها لمواجهة المجتمع، نجد طريقة ابتكرها الكاتب تحت اسم “كابوس” وفيها يمزج بين الوهم والواقع المتحقق وكأن خيطا شفيفا يربط بينهما، إلى جاب ذلك نجد حبكة لطيفة استمدها الكاتب من تعلق بطل روايته بأبطال الروايات وفيها يحقق العدل في منظوره وفي مجتمعه الفاسد عبر تقمص أبطال شخصيات روائية عدّة في محاولة للانتقام ورد الاعتبار للمظلومين.
كما تلقي الرواية الضوء على الاغتراب الذي يواجه المثقف العربي في مجتمعه عبر والد البطل الذي انتهى به المطاف لإنهاء حياته بيديه وهي حياة كانت مليئة بالأوجاع ما أثر عليه وعلى باقي أسرته وكذلك اغتراب إبراهيم المثقف الشاب المظلوم والمنكفئ على ذاته يكفكف من أحزانه حتى أنه قرر إنهاء الحياة على وتيرة والده، لكن كان للحبكة رأيا مغايرًا، ولذلك الشبح المطارد للبطل من أول فصل وحتى آخر فصل رأي تغلب في الأخير، ليكشف عن فضاءات أرحب من الممكن تحقيقها دون اليأس.