ظاهرة فريدة لا أتصور نظيرًا لها فى أى دولة فى العالم، وهى طرد ضيوف بعض برامج التوك شو على الهواء «مباشرة»، ويبدو أن هذا هو التطور الطبيعى للحاجة الساقعة، أقصد المرحلة الثانية من هروب الضيوف من استكمال البرامج، وغضبهم من المذيع، فيقفون ويغادرون الاستوديو.
وبذلك تكون برامج «التوك شو» قد عبرت مرحلتين مهمتين فى تطوير الخطاب الإعلامى..
الأولى: هى غضب الضيف ومغادرته الاستوديو خلال البرنامج، على أساس أنه مواطن حر، لا يجوز حجزه فى أى مكان حتى لو كان معلوما على الهواء دون إذن قضائى، ليسمع كلاما لا يعجبه سواء من المذيع، الذى استضافه أو من بقية الضيوف.
الثانية: هى غضب المذيع نفسه من كلام الضيف، فيطرده من الاستوديو شر طردة، على أساس أن الاستوديو ملكية خاصة، لا يحق للغرباء الوجود فيه إلا بإذن مسبق من البرنامج، وإذا قرر المذيع إلغاء الإذن لأى سبب، فعلى الضيف مغادرة المكان فورا، وإلا وجهت له القناة الفضائية تهمة الاعتداء على «حرمة مكان خاص»!
ولا يبقى أمامنا سوى انتظار المرحلة الثالثة، ولا يمكن التنبؤ بها، لأن المرحلتين السابقتين كانتا ابتكارا مصريا مئة فى المئة.
ولو كنت مكان الفضائيات وبرامج التوك شو لصنعت مسابقة للجمهور عن اقتراحاته أو توقعاته لـ«التطور الممكن» بين المذيع وضيوفه فى الشهور المقبلة، فقد يبدع الجمهور فكرة جهنمية تتجاوز المذيعين فى الابتكار والتصرف.
وقد يسأل واحد من الجمهور سؤالا ساذجا لا محل له من الإعراب: أليس لهذه البرامج فريق إعداد يخطط لأى حلقة ويضع تصورا لمسارها ويحدد نوعية التساؤلات المطروحة، ويختار الضيوف على أساسها وهو عارف كل شىء عن الخلفيات السياسية والاقتصادية والعلمية لكل ضيف ومواقفه من القضايا العامة المطروحة؟!
نعم، هذا صحيح نظريًّا، لكن على أرض الواقع الأمر مختلف، فبرامج التوك شو الشهيرة صارت مثل مسرحيات القطاع الخاص الكوميدية (الڤارس)، يمكن لنجومها أن يرتجلوا كيفما شاؤوا، ويخرجوا عن النص فى أى وقت، خصوصا أن بعض المذيعين يشتغلون بمنطق أنهم أصحاب البرنامج من بابه، يتحدثون فيه على كيفهم، ويقولون ما يتراءى لهم من انطباعات أو أفكار أو خواطر، أو حسبما يُوحى إليهم من سماء ثقافتهم، سواء أكانت هذه السماء مفتوحة وعالية أو مغلقة ومنخفضة وتكاد تلامس الأرض، وحتى هذه اللحظة أغلب السماوات الفضائية محدودة القدرات المعرفية، لكن الكاميرا قوة، والأقوى هو الوكيل الإعلانى الواقف خلف المذيع، ويمنحه الطاقة والحياة على الشاشة أيا كانت إمكاناته!
فهل يمكن للفضائيات أن تنظم هذه المسابقة للجمهور؟!
يبقى طلب أخير أو رجاء أخير لهؤلاء العظام وكاميراتهم الساحرة هو: قليلا من احترام كرامة البشر، يعنى لو طردوا مواطنا أو شخصية هامة أو ضيفا من الاستوديو أن يصنعوا ذلك بطريقة إنسانية وأقل إهانة، يعنى ممكن يطلعوا «فاصل إعلانى»، ثم يعتذرون للضيف عن استكمال استضافته فى البرنامج، ويعودون إلى الجمهور متحججين بأى عذر، وقد سبق لمذيع أن طرد مواطنة عادية من الاستوديو، فوقفت تخلع الميكروفون المعلق فى ملابسها، فإذا بالمذيع المهذب يقول لها: «اخرجى بره هما يشيلوه!»
رجاء.. لأن التليفزيون لسوء الحظ بات واحدا من أدوات التعليم والتربية، ولكم جزيل الشكر.
نقلًا عن جريدة “التحرير”