إيمان مندور
قبل 29 عاما، وتحديدا في الدقيقة العاشرة بعد الساعة الثالثة من عصر يوم الاثنين 12 أكتوبر 1992، مرت مصر بأسوأ كارثة طبيعية شهدتها في تاريخها الحديث، والتي راح ضحيتها مئات المصريين في ثوان معدودة، بعد أن انهارت وتصدعت عشرات المنازل والمدارس والمنشئات بسبب زلزال مفاجئ.
بعيدا عن الأسباب والخسائر والضحايا وكيفية مواجهة الدولة للأزمة آنذاك، كان الأكثر انتشارا عقب أيام من الكارثة، هو قصة المهندس “أكثم إسماعيل”، المواطن الذي أصبح بطلا بسبب الزلزال، لدرجة أن الصحافة شبهت الواقعة بما حدث مع “أهل الكهف”، حيث ظل مع أسرته تحت الأنقاض لأكثر من 82 ساعة عقب الزلزال، ماتوا جميعا أمامه، بينما ظل هو على قيد الحياة.
من هو أكثم إسماعيل؟
أكثم سيد إسماعيل مواطن مصري ولد في حي شبرا عام 1956، تخرج في كلية الزراعة جامعة القاهرة. اشترى والداه قطعة أرض في المهندسين وبنيا عليها فيلا، انتقلا إليها، أما هو عمل فعمل بعد تخرجه في السياحة، ثم سافر إلى إيطاليا وعاد عام 1983 وعمل في فندق، ثم سافر إلى إيطاليا مرة أخرى عام 1985، وعاد بعد أن تزوج من الإيطالية، تنسيانا، وكان والده قد باع فيلا المهندسين واشترى بثمنها شقتين لأولاده في عمارة مصر الجديدة، واحدة في الطابق السابع لأكثم والثانية في الثالث عشر لشقيقته الدكتورة “إلهام”.
ماذا حدث للأسرة؟
أكثم كان لديه شركة دعاية وإعلان في ميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، لكنه كان يكره العمارة وشقته ويبحث عن شقة أخرى منذ عام قبل وقوع الزلزال. وفي يوم 12 أكتوبر عاد لمنزله فوجد والدته ووالده في زيارته، فتناولوا الغداء جميعا، وصعدت شقيقته لشقتها، وظل هو وزوجته وابنته “سميرة” البالغة من العمر 4 أعوام، ووالديه، في شقته، حتى فوجئوا بالزلزال، فتحرك الجميع نحو باب الشقة، لكن كان العمارة انهارت فوقهم جميعا.
شهد “أكثم” وهو تحت الأنقاض وفاة والدته وزوجته وابنته، حيث تحدث وقتها موضحا أن ابنته طلبت منه ماء، ثم كولا، ثم أي “حاجة ساقعة”، لكنه لم يمكن يملك أي شيء، سوى أن يشرب “بوله” حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، وحاول فعل ذلك مع ابنته، فقبلت في المرة الأولى أن تشربه بعدما غمس “فانلته البيضاء” فيه، لكنها رفضت في المرة الثانية، وما لبثت أن ارتفعت حرارتها وفجأة تجمدت، وماتت بين يديه وهو لا يملك سوى العجز وباقي أنفاس بالكاد تكفيه تحت الأنقاض، ماتت الابنة وانتفخت بطنها أمامه، وهو لا يستطيع فعل أي شيء.
أما والدته وزوجته الإيطالية “تنسيانا”، فلم يكن حظهما أفضل من حظ الابنة، فوالدته لم تحتمل الانهيار وتداخلت بين الحطام، وزوجته ماتت أيضا لكن بسبب خطأ عمليات الإنقاذ، بحسب ما أعلنه هو لاحقا، حيث أكد في أول حوار صحفي أجراه بعد النجاة، في جريدة “السياسي”، بتاريخ 8 نوفمبر 1992، أن الذي تم في عمارة هليوبليس هو عملية رفع أنقاض وليس إنقاذ، قائلا: “لقد ماتت زوجتي بسبب هذا الخطأ.. فالبلدوزر كان يصعد أعلى الأنقاض ويهرس كل ما تحته، زوجتي انهالت عليها أكوام التراب نتيجة الأحمال الثقيلة والبلدوزر، أما عملية رش الماء فقد سدت علينا منفذ التهوية الوحيد الذي كنا نتنفس منه”.
أكثم كشف مفاجأة في الحوار حول عملية إنقاذه، التي أكد أنها حدثت بالصدفة وليس كما أشيع من المسؤولين وقتها أنه تم اكتشاف مكانه بواسطة أجهزة النبض الحديثة والكلاب المدربة أو أجهزة التفتيش. نفى أكثم كل الروايات التي قيلت عن إنقاذه، موضحا أن الذي اكتشفه عامل بسيط اسمه “سعيد الجارحي”، يسكن في شارع المشروع بمدينة الصحفيين، والذي كان يعمل مساعد سائق البلدوزر الذي كان يرفع أنقاض العمارة المنهارة.
كيف تم الإنقاذ؟
يقول أكثم: “لعب القدر دوره في نجاتي بواسطة هذا الرجل، حيث أكد لي فيما بعد أنه وجد بطانية ملقاة على الحجارة وجرفها البلدوزر، فهمّ هو أن يقوم بالتقاطها عن طريق أسنان مشط البلدوزر، في هذه اللحظة وأنا تحت الأنقاض وجدت بصيصا من النور أمامي بعد رفع هذه البطانية، فناديت بأعلى صوتي طالبا النجدة، وكررت النداء مرات ومرات حتى سمعني هذا الشاب، فأخذ ينبش في هذه الفتحة التي كانت البطانية تغطيها، وأطلّ هو برأسه منها وأخذ يحدثني، عرف أني على قيد الحياة فأسرع إلى فريق الإنقاذ ليخبرهم بمكاني”.
لم ينم أكثم لمدة 4 أيام تحت الأنقاض، ماتت أسرته أمامه، واكتفى بشرب بوله ليساعده على البقاء على قيد الحياة ولو قليلا حتى يتم إنقاذه، وبالفعل تم الأمر، بل وجاء عكس التوقعات، حيث توقع الأطباء أن يجدوه محطما بالكامل جراء الانهيار، لكن كانت المفاجأة أن الأضرار الجسدية مجرد خلع وكسر بالكاحل الأيسر، أما الأضرار النفسية فلم يعلم بها أحد حتى الآن.
وصف “أكثم” حالته قبل الإنقاذ بأنه لم يكن يفرق بين الليل والنهار، ووصف المكان بأنه كان خانقا كالمقبرة بسبب الروائح المنبعثة من الجثث. وبحسب ما نشرته جريدة “الوفد” بعد أيام من الواقعة، فإن أكثم ظل واقفا مع أسرته متشابكين الأيدي لعدة ساعات تحت الأنقاض، إلى أن ماتت أمه وزوجته وابنته تباعا.
ما بعد الإنقاذ؟
تباينات الروايات الواردة في الصحافة وقتها، فقد كتبت جريدة “الوفد” أنه قرر العمل خادما في المساجد، بعد أن كتب الله له عمرا جديدا. أما جريدة “الجمهورية” فأكدت أنه سيتبرع بجميع أمواله لبناء مسجد تقربا وشكرا لله على هذه المعجزة، وهو ما أعلنته الكثير من الصحف أيضا، لكنه، وبعد هدوء ضجة الواقعة، اختفى تماما عن الأنظار، حتى ظهر لأول مرة بعد 28 عاما في تحقيق أجراه موقع “مصراوي”، ليكتفي بالتأكيد على أنه يحاول استكمال حياته بعيدا عن الصخب والإعلام، وأنه ترك السياحة واهتم بقطعة الأرض التي يمتلكها، بل تزوج من جديد وأصبح لديه 4 أبناء أيضا، تاركا ذكرى الزلزال خلفه، وشاكرا لما أنعم الله به عليه في الحياة من جديد.