لن نبحث هنا عن سيرة ناديي القمة في مصر كما يمكن أن يكون الحال في تتبّع سيرة أي ناديين يشار إليهما بوصفهما “قطبَي” الكرة في هذا البلد أو ذاك، وإنما سننظر في خصوصية هذين القطبين في مصر تحديداً.
ابتداءً، تبدو الشخصية المصرية شخصية كروية، بل ورياضة بصفة عامة. لا تنظر الشخصية المصرية إلى الرياضة فقط بوصفها مجالاً للتنفيس والتسلية، أو حتى باعتبارها نشاطاً مهماً للياقة البدنية، وإنما تنغمس في ذلك النشاط كالعادة بحيث تضفي عليه من روحها الكثير من الحيوية، بل أقصى ما لديها من حيوية، وهو ليس بالأمر الغريب. فحيوية الشخصية المصرية معروفة، وهي لا تستنكف أن تخلع على الأعمال والطقوس الجادة – بل وحتى المقدّسة – تلك الحيوية بما يخرج بالعمل أو الطقس من جدّيّته إلى حيث يغدو مكسوّاً ليس بالهزل بالضرورة وإنما بفيض من الحركة والانشراح والمرح بأقصى ما يمكن أن يحتمله ذلك العمل أو الطقس. والحال كتلك، لن يكون غريباً أن تتغلغل الحيوية في الرياضة المصرية إلى أعماقها، ولن يكون مستغرباً أن تستأثر كرة القدم ونادييها الكبيرين بالنصيب الأعظم من تلك الحيوية في المتابعة، بل والمبالغة في التعصّب الذي تغلّفه المكايدة الساخرة والمرحة على النمط المصري الفريد.
نالت الرياضة المصرية على المستوي الإقليمي عربياً وإفريقياً سبقاً مستحقاً في كثير من المجالات بما يبلغ حدود التربّع على القمة في كثير من الأحيان، سواءٌ على نطاق بعض الرياضات منفردة أو في الشأن الرياضي مجملاً بصفة عامة. والسبق مستحق لأن لدى مصر الموارد البشرية الرياضية – سواءٌ على مستوى الرياضات الفردية أو الجماعية – التي ظلت ترتقي إلى الأحقية “الفنية” بالفوز، ولكن الجدير بالوقوف عنده هو سلوك الشخصية الرياضية المصرية عندما تتزعزع قليلاً أو كثيراً أحقيتها الفنية بالفوز لصالح أحد الخصوم أو حتى لصالح مجموعة منهم. ماذا تفعل الشخصية المصرية الرياضية؟ هل تقف مستكينة مستسلمة ومتنازلة ابتداءً عن الفوز لصالح أولئك الخصوم المنافسين؟
سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يبادر أي من المنحازين إلى الشخصية المصرية أو المتحاملين عليها – على حدّ سواء – إلى الإجابة على السؤال الأخير بنعم. فالإصرار والمثابرة والاستماتة في الفوز من أهم صفات الشخصية المصرية بصفة عامة، وقد يختلف الناس – لا سيما المتحاملين أو المنحازين ضد الشخصية المصرية بأي مستوى ولأيٍ من الأسباب – في تحليلهم وقراءاتهم لتجليات إصرار ومثابرة واستماتة الشخصية المصرية، وذلك بما يصل إلى حدود بعيدة من الاختلاف (وأحياناً الاتهام)، ولكن يكاد الاتفاق يصل إلى درجة الاجماع على أن الشخصية المصرية – في الرياضة وبصفة عامة – شخصية لا تستسلم للهزيمة ولا تقرّ بها حتى آخر لحظة من المعركة، بل ربما حتى بعد انتهائها، وذلك على سبيل شحن النفس بأقصى الطاقات تطلّعاً إلى الانتصار في المواجهة القادمة، وأرجو ألا يكون في التفسير الأخير أي تبرير بأي حال لما يمكن أن يشتمله عدم الإقرار بالهزيمة من التداعيات السلبية في أي مقام.
من تلك الخلفية للشخصية الوطنية إذن صعد الأهلي والزمالك وتشكل تاريخهما، ولكن بخصوصية فريدة بالنسبة لسيرة ناديي القمة في أيٍّ من البلاد سواءٌ إقليمياً أو على المستوى العالمي. في حلقة من برنامج “حديث القاهرة” على قناة “القاهرة والناس”، تم بثها (أو إعادة بثها) بتاريخ 3 سبتمبر 2021، أشار إبراهيم عيسى إلى أن ما يعيشه المصريون الآن هو انعكاس لتاريخ طويل من الاحتقان فيما يتعلق بالكرة المصرية التي ظلت تؤثر فيها السياسة باستمرار كما هو الحال في مختلف دول العالم الثالث. استعرض عيسى تاريخ الأهلي والزمالك، مع تركيز على الأخير منذ مراحل التأسيس في عهد الإنجليز ومروراً بعهد الملك فاروق ثم ثورة يوليو وصولاً إلى العقود الأخيرة، مستلهماً في ذلك قصصاً وحكايات يستقيها من أكثر من مرجع عن كرة القدم المصرية على لسان فهمي عمر ونجيب المستكاوي وياسر أيوب على سبيل المثال، ومشيراً بكثير من الفخر إلى “زملكاوية” أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ وهاني شاكر، أيضاً عل سبيل المثال وليس الحصر بطبيعة الحال.
من غير الواقعي أن نزعم أن ثمة ما يبقى بمنأى من تأثير السياسة في مختلف المجالات في أي من بقاع العالم بدرجة أو أخرى، وطبيعة دول “العالم الثالث” على اختلاف العهود والعقود تجعل تأثير السياسة ملحوظاً على كل نشاط وصعيد. ولكن “السياسة” لا تعمد إلى إملاء كل شيء في حياة الشعوب لتشكّله حرفياً، قدرَ ما تراقب على الأرجح تفاعل الناس مع هذه القضية وتلك وتتحرك في التأثير – المباشر أو غير المباشر – على هدى ذلك، وقد تكتفي بالمراقبة في كثير من الأحيان ما دام ليس ثمة في الأمر ما يثير “قلقها”.
مهما يكن الأمر، فإنه ليس من المبالغة القول بأن سيرة الأهلي والزمالك في الحياة المصرية – وليس تاريخ كرة القدم المصرية فحسب – شديدة التغلغل والتفاعل بما يتجاوز تأثير السياسة منفردة بقدر عظيم. تشكّلت صورة كلٍّ من الناديين الكبيرين منذ النشأة وعلى كرّ الأيام والسنوات على خلفيات تاريخية وسياسية واقتصادية متعددة ومحتدمة ربما في معظم الأحيان، ولكن الخلفية الجماهيرية (الاجتماعية) هي التي ظلت سائدة ومؤثرة بما يطغى حتى على تأثير المنعطفات السياسية الحادّة، أو على الأقل بما يستجيب لتلك المنعطفات بتلقائية الجماهير كلّ بحسب ميوله المندفعة بطبيعة الحال مع كرة القدم كما هو الحال في كل مكان.
لم يكن الأمر إذن يسيراً بحال مع قصة الناديين الكبيرين بل محتدماً في حيوية تكتسب فرادتها من فرادة حيوية المصريين على كل صعيد، ولكن برغم ذلك الاحتدام الحيوي على الطريقة المصرية – أو ربما بسببه – استقرت صورة كلا الناديين على نمط واحد على الأرجح طوال تاريخهما مع تغيّرات طفيفة: النادي الأهلي هو الميل الذي يوشك أن يكون فطرياً في مصر لدى جماهير الطبقات الكادحة والمتوسطة التي تشكل القطاع الأكبر للجماهير، في حين يشكّل الزمالك خياراً ليس بالضرورة للطبقة المخملية – أو أية أقليات على أي صعيد – وإنما على الأرجح لكثير ممن يميلون إلى الاتجاه في التفكير أو النزوع إلى الشعور بمنأى عمّا هو سائد. هذا، ولا يتضمّن هذا التصنيف شديد العمومية – والذي لا يسلم بطبيعة الحال من الكثير من الاستثناءات في أكثر من اتجاه عند التوغّل إلى تفاصيل ليس هذا مقامها – أي تفضيل لأي من الناديين أو مشجعيهما بأية حال، قدر ما هو قراءة عامة تكاد تكون مما يقع ضمن المتداول خلسة في كثير من الأحيان. والمفارقة هنا أن حساسية التناول وحدّة التعصّب تبلغان حدّاً بعيداً مع الرياضة التي تُستعار الصورة المجازية منها عندما يراد التعبير عنُ تقبّل أيٍّ من القضايا بصدر رحب فيُقال: “الروح الرياضية”، وهذا مجدداً في كل بقعة من العالم لا في مصر وحدها.
هكذا إذن وجدت الخصوصية طريقها في مصر حتى مع كرة القدم وسيرة نادييه العظيمين، فعوضاً عن اقتسام “كعكة” الجماهير بما يقرب من التساوي كما هو الحال عادة، تبدو الكفة مائلة “كمّاً” لأحد الناديين، لكن كفّتي ميزان التشجيع الجماهيري تبدوان في النهاية متوازنتين “نوعاً” – وأرجو أن يجوز التعبير – بحيث يميل من يحب السائد إلى أحد الناديين ويختار من يؤثر الخروج عن الشائع النادي الآخر، كل ذلك يمضي في سلام ليس وفقاً لتعبير “الروح الرياضية” المستهلك وإنما بما يتجاوزه استلهاماً لتجليات تعبير “الروح المصرية” شديد الخصوصية.
للتواصل مع الكاتب من خلال الإيميل التالي: ([email protected])