سامح الزهار
تاريخيًا، اكتسى طريق الإفتاء عبر العصور والأزمان المتعاقبة من التاريخ الإسلامي بمناهج مختلفة ذات أولويات تناسب العصر التي صدرت فيه تلك الفتاوى، فالفتوى بنت زمانها ومكانها وقدرة صاحب الإفتاء على التنوع والتحرك والمرونة هي من تجعل من مدارس الإفتاء المختلفة نموذجًا رصينًا له منهجيته وأبعاده وثوابته وجدلياته، ولذلك فإن المراقب والمتابع والمدقق والمتبحر والقارئ يجد في التطور المنهجي للآداء المؤسسي لشكل الإفتاء ما يستحق أن نكترث به جميعًا وفق الأولويات المعاصرة.
في الحقيقة، إن الله سبحانه وتعالي هو الذي يفتي الناس على الحقيقة، وأول من قام بوظيفة الإفتاء بالتبليغ عن الله عز وجل في الإسلام هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته، ثم العلماء من التابعين، ولقد قدم ابن القيم رصدًا تاريخيًا لبداية الإفتاء في عصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال رحمه الله: “وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين”، فكانت الفتاوى النبوية جوامع الأحكام، وبها فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين الخروج عنها، ثم قام بالفتوى بعده الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وكانوا بين مكثر من الفتوى ومقل ومتوسط.
إن دار الإفتاء المصرية منذ نشأتها في سنة 1895م – 1313هـ وهي على رأس طليعة المؤسسات الإسلامية التي تتحدث بلسان الدين الإسلامي وترفع لواء البحث العلمي في كافة أفرع العلوم الدينية لاسيما الفقه، ومما استدعى اهتمام الكثيرين مؤخرًا هو ما دشنته دار الإفتاء المصرية من عدة حملات تخاطب الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي منها حملة “اعرف الصح” تلك الحملة التي ترصد أهم الأمور الحياتية التي تشغل الحياة العامة والمعاملات اليومية والتي هي محل لغط كبير بين الناس لعدم درايتهم الكافية ببعض المسائل الفقهية وتصويب تلك المعلومات بشكل عصر جذاب توعوي مختصر، فإن آفة هذا الزمن هو الاختزال ولكن إذا كان غير مُخل فأهلاً وسهلاً بكل ما ييسر لا يعسر.
أما ما تقوم به تلك الحملات المستنيرة الواعية فهو قطعًا امتداد لدور دار الإفتاء المصرية العظيمة إضافة على ما تدعمه من البحث الفقهي بين المشتغلين به في كل بلدان العالم الإسلامي؛ بالإضافة إلى دورها التاريخي والحضاري من خلال وصل المسلمين المعاصرين بأصول دينهم وتوضيح معالم الإسلام وإزالة ما التبس من أحوال دينهم ودنياهم كاشفةً عن أحكام الإسلام في كل ما استجد على الحياة المعاصرة.
أثمن بكل الإعجاب والتقدير ما يقوم به السادة القائمين على إدارة وسائل التواصل الاجتماعي بدار الإفتاء المصرية من بحث وتقصي لما يشغل بال المواطن في الأمور الدينية وتقديم الفتوى بشكل مبسط ميسر ومعاصر ربما افتقدناه منذ سنوات في المؤسسات العامة، ولكن هذه الطفرة الكبيرة لا بد وأن خلفها كتيبة من المبدعين الذين يعرفون جيدًا جمهورهم المستهدف وأولوياته وسبل الوصول إليه رغم أنف كل المتربصين والمُحبِطين والمُعطلين والمُعكرين لديوان الحياة.